إيلاف من بيروت: في لبنان، تتوافر كل العوامل التي تدعو للاحتجاج، من الحرب السورية المجاورة وتداعياتها إلى الفساد المستشري وانتهاكات حقوق الإنسان، وتأجيل الانتخابات وارتفاع نسب البطالة والهجرة وشلل المؤسسات والتلوث. لكن الاحتجاجات شبه معدومة منذ توقّف تظاهرات صيف 2015 التي أشعلتها أزمة النفايات، وتعتبر حدثًا شاذًا عن القاعدة.

في محاولة لفهم ما يوصف مرارًا بحالة نوم دائم تغذّي نفسها بنفسها، لا بد من معاينة السلوك المعرفي في البيئات التي تتعرّض لضغوطات كبيرة.

الاضطراب الانفصالي: وباء خفي

السرنمة أو السير خلال النوم نمط سلوكي يعتمده معظم اللبنانيين في ما يتعلّق بالحقوق المدنية، والسبب الأساس حالة يسميها علماء النفس "الاضطراب الانفصالي"، وهو دفاع تكيّفي عند مواجهة ضغط أو صدمة، يتميّز بفقدان الذاكرة لفترة قصيرة أو طويلة، وحس الانفصال عن الذات أو عن المحيط.&

ووفقًا لمارلين شتاينبرغ وماكسين شنال، مؤلفي كتاب "الغريب في المرآة: الاضطراب الانفصالي- وباء خفي"، الانفصال عن الواقع آلية دفاع تستخدمها الضحية لتفصل نفسها عن المحفزات العاطفية التي تتعرّض لها بشكل مستمر. بتعبير آخر، يساعدنا ذلك في مواجهة المواقف العصيبة، وإلا فلن نقوى على تحمّلها، بحسب ما تقول نادين مظلوم في مقالة نشرتها في موقع "نيوزروم نوماد".

في لبنان، تشير الأدلة إلى أن هذا النمط تحوّل بشكل عام إلى أسلوب عيش يومي، حيث تشق أبغض الظروف طريقها نحو المشكلات المتكدّسة فيتولّد شعور بالعجز، في حلقة مفرغة تغذّي نفسها بنفسها.

والانفصال نوع من اضطرابات ما بعد الصدمة PTSD، وتلفت دراسات متعددة إلى أن قسمًا كبيرًا من اللبنانيين الذين عاشوا الحرب الأهلية بين 1975 و1990 يعانون صدمة بسبب سنوات دامية شهدت مقتل أكثر من 250 ألف مدنيّ. تبلغ نسبة اضطراب ما بعد الصدمة والكآبة 30 في المئة في بعض المناطق، وتطال عددًا من الأولاد والمراهقين والراشدين.&

الاضطراب الانفصالي يخفّف الاندفاع

بحسب مظلوم، يحدث الاضطراب الانفصالي حين يواجه الشخص تجربة قويّة من المستحيل الهرب منها فعليًا، فتؤدّي إلى تغيير وعيه بطريقة تخوّله الاستمرار ضمن ظروف شديدة القسوة. تقول الدكتورة سوزان روزنتال، مؤلفة "القوة والعجز"، إن الاضطراب الانفصالي يفصلنا ذهنيًا عن تجارب لا تحتمل. عندما يسبّب التفكير ألمًا، يقوم الانفصال بمساعدة الفرد حتى يكمل حياته من دون أن يفكّر، فنلجأ إلى صدّ هذا العالم أو نتخيّل أنّه أكثر أمانًا مما هو في الواقع. من خلال تخدير الخوف والغضب والألم، يولّد الانفصال إحساسًا مزيّفًا بالأمان، فيخفّف من اندفاعنا للقضاء على المخاطر التي تهدّدنا.

وتلفت روزنتال إلى أن وسائل الإعلام تشجّع الانفصال الشامل حين تغطّي كوارث مثل الحرب فتعقّمها وتصوّرها بطريقة مقبولة وترفقها بشروحات "تتقطّر بالأكاذيب".&
وفي لبنان، تتصرف وسائل الإعلام كشركات تتوخى الربح، أو انطلاقًا من الانتماء السياسي.

الانفصال يغذّي حكم الأقلية وعجز الأنظمة

وُضع هذا النظام قبل الحرب الأهلية 1975-1990 التي أحيت استخدام الانفصال الشامل كوسيلة لاستمرارية العيش، ونما على مرّ السنين الدامية ويستمرّ في النمو، إلى جانب العجز الراسخ في الشعب، ليصبح طريقة عمل المشهد السياسي الوطني. ولولا الاضطراب الانفصالي وشعور العجز الذي لا يحتمل، لامتنع الكثير من اللبنانيين عن المشاركة في سفك الدماء الذي دام سنوات متعددة، ولما بايعوا زعماء على أساس سلطة موقتة في وضع ميئوس منه، بحسب مظلوم.

وبعد سنوات على انتهاء الحرب الأهلية، يبقى الانفصال والعجز القوّتين المهيمنتين في اللعبة. والزعماء الأقوياء في تلك الحرب هم وزراء ونوّاب بسبب قانون العفو الذي سمح لهم بالبقاء في السلطة.

الاهتمام بالصحة النفسية

الحالة النفسية العامة في مجتمع معيّن عامل حاسم في أدائه الوظيفي. نُبذت الأزمات النفسية والأنماط السلوكية التي تخدم المصالح الذاتية في لبنان فترة طويلة فاعتُبرت مهزلة في أسوأ الحالات، ووسيلة نجاة في أحسنها، ويرى موقفنا العام أنّها نقاط ضعف متناقضة ومتعايشة في الوقت نفسه، وقوّة بدلًا من عقبة، لذلك ندفع الثمن غاليًا. ونظام الصحة العقلية عندنا مكسور وممول بشكل سيئ وفقًا لتقويم أجرته منظمة الصحة العالمية، فالميزانية المخصصة لتمويل الصحة العقلية في لبنان لا تبلغ إلا 5 في المئة من ميزانية الصحة العامة، ويخيّم الارتباك والمعلومات المضللة على قدرتنا على الحكم السليم.

تجسير الهوة بين الفقراء والأغنياء

ليس من السهل محاربة الأوليغارشية والاضطراب الانفصالي، خصوصًا عندما تلوح تهديدات خارجية قامت في الأساس بتقوية هذين النمطين. وبحسب جيفري ونترز، كاتب "الأوليغارشية"، تتضمن الآليات الضرورية لمحاربة نظام مماثل على الصعيد التقني تقليص نفوذ المال في بلورة السياسة، وضمان تكافؤ الفرص للهروب من الفقر، وإعادة صياغة النظام الضريبي الذي يستثمر في إنشاء الازدهار والنمو على نطاق واسع.&

ينبغي إعادة توزيع الثروات كخطوة أولى نحو إعطاء طابع ديمقراطي للأمة وتعزيز مؤسساتها. ولسوء الحظ، فحتى مؤسساتنا قد ضعفت وانقسمت بين الأغنياء والفقراء، علمًا أن هذا الانقسام يدعم الأوليغارشية وعدم المساواة. ومن دون مؤسسات قوية، يزداد اعتماد الناس على زعمائهم ويضطرون إلى تفضيل الخصخصة على السياسات العامة الإصلاحية، وهذا بدوره، يغذّي العجز والتفكك.&

ترى مظلوم أن النظام الحالي غير مستدام، أو ذاتي التدمير. فسياسات التهدئة والتفرقة والفقر والإدمان تعيث في الأرض والشعب دمارًا. وكلّما كانت الأمة أقل مشاركة ووعيًا، كلما ازداد العبء على بيئتها ورفاهيتها، ما يؤثر من دون شك في نوعية حياة أجيال اليوم والمستقبل.

أعدّت "إيلاف" هذه المادة عن موقع Newsroom Nomad على الرابط الآتي:
https://newsroomnomad.com/lebanons-hidden-epidemic-many-silent-things-bad/
&