إيلاف من الرباط: هبت رياح دبلوماسية منعشة على المغرب في المدة الاخيرة ، من شانها مضاعفة قدرته على الصمود فيما ينتظره من جولات لاقناع المترددين بخصوص نزاع الصحراء. 

فبعد المعركة التي لم يخسرها ولم يربحها بالكامل مع الامين العام الاممي المنتهية ولايته، بان كي مون، نجح المنتظم الدولي في اختيار خلف له، بسلاسة نادرة، لم تعرف المنافسة على المنظمة مثيلا لهل في العقود الماضية، بالنظر الى ان المرشح الفائز ذو مواصفات استثنائية : انطونيو غوتيريس رئيس وزراء البرتغال الأسبق والمفوض السامي الحالي للاجئين بالأمم المتحدة. 

وكان المغرب شديد الانشغال بمن سيؤول اليه المنصب الدبلوماسي الرفيع في نيويورك، لذلك لم تتورط الرباط علانية في المراهنة على مرشح دون أخر، وإنما راقبت العملية بانتباه وحذر الى ان انتهت النتيجة لصالح مرشح سيطمئن اليه المغرب بالتأكيد ، كونه يعرف البلاد ، بحكم الجوار مثلما ان له علاقات صداقة ببعض سياسييه، أبرزهم عبد الرحمن اليوسفي، رئيس حكومة التناوب الأسبق.

صحيح ان اليوسفي اعتكف السياسة وابتعد عن الشأن الحزبي والحكومي ، لكنه لا يكف عن التفكير في القضايا الوطنية الكبرى، رغم الوهن الذي اعترى صحته في المدة الاخيرة ما جعل العاهل المغربي يوليه عناية استثنائية، اذ عدا أصرار الملك على نقله للمستشفى وإحاطته برعاية طبيبه الخاص، فانه عاده مرتين في غرفة العلاج ، من دون هالة بروتوكول، فقد دخل الملك الى المستشفى مثل باقي الزوار تقريبا، فتأثر المغاربة كثيرا خاصة وهم يشاهدون عاهلهم يطبع قبلة مودة وتقدير على جبين وزيره الاول السابق التفاتة غير مسبوقة.

ويأمل المغرب ان يتعامل الامين العام المقبل، مع ملف الصحراء، بموضوعية وحياد، استنادا الى مبادئ الامم المتحدة الداعية الى فض الخلافات والنزاعات بالمساعي الحميدة، ودفع أطراف الصراع الى تنازلات متبادلة للوصول الى صيغة لا غالب ولا مغلوب. 

غوتيريس مع عبد الرحمن اليوسفي

 

تفاؤل مغربي .. وغوتيريس يختلف عن بان كي مون 

وينبني تفاؤل المغرب على معطيات سياسية وكدا على مواصفات شخصية الامين العام الجديد، الذي يختلف قطعا عن سلفه ،بان كي مون، في التجربة والثقافة وأسلوب العمل. فأنطونيو غوتيريس، من القارة الأوروبية وهي الأقرب الى تفهم النزاعات الافريقية وتحديدا الجارية فوق احدى ضفتي البحر الأبيض المتوسط. وهو ايضا اشتراكي، ذو قناعات مبدئية من دون تحجر، ما جعله يتعاطف مع أضخم ملف انساني ببذله جهدا خارقا من اجل معالجة منصفة لملف اللاجئين حيثما يوجدون؛ بمعنى ان غوتيريس يغلب جانب العدل وتحكيم القيم الانسانية وحقوق الانسان. 

في هذا السياق، دعا غوتيريس من موقعه كمفوض للاجئين الى احصاء سكان مخيمات جبهة البوليساريو في منطقة تيندوف الواقعة في التراب الجزائري؛ وهو المطلب الذي طالما عبر عنه المغرب بكل الوسائل وعارضته الجزائر بكل قواها الدبلوماسية، غير مبالية بتداعيات فضيحة سرقة المساعدات الانسانية التي تقدمها بعض الدول الأوروبية الى المخيمات الخاضعة لسيطرة جبهة البوليساريو؛ فقد ثبت بالدليل القاطع تحويل جزء مهم منها الى أيادي مجهولة قامت بتهريبها الى دول مجاورة للصحراء واعادت بيعها في الاسواق، من دون ان تنزع عنها إشارة مفوضية اللاجئين. 

يعرف ملف المساعدات جيدا 

هذا الملف الذي يعرفه الامين العام الجديد جيدا، سيكون وحده كافيا لكي يدقق في مزاعم واشتراطات جبهة البوليساريو. لكن الأهم من كل ذلك ان غوتيريس رجل حوار وداعية سلم ومفاوض قدير، تسمح له سنه بمتابعة ومواكبة ملف نزاع الصحراء؛ فضلا عن انه يتكلم اللغة الفرنسية التي ستمكنه من التفاهم المباشر مع محاوريه. 

ويعتقد محللون هنا ان المغرب سيكون على الأقل مرتاحا من الناحية النفسية، كونه سيواجه محاورا ذَا مصداقية،ملما بخلفيات النزاع ، تتملكه الرغبة في العمل من اجل حل عادل ومنصف.

ومن المؤكد ان الامين العام الجديد، واثق من مرونة الرباط واستعدادها لحل تفاوضي متفق عليه وذلك بمناقشة كافة الصيغ والبدائل التي لا تخرج عن خط السيادة ؛ فما دونها يمكن التفاهم عليه على مراحل او دفعة واحدة. 

العامل الاخر المطمئن للدبلوماسية المغربية بشكل يجعلها تعمل من دون سباق مع الزمن، هو تمكن المملكة الاسبانية من تشكيل حكومة بعد انتظار حوالي سنة، وذلك على إثر مصادقة المجلس الفدرالي للحزب الاشتراكي العمالي،على قرار التغيب عن جلسة التنصيب الثانية والحاسمة في مجلس النواب الإسباني، ما يتيح لماريانو راخوي، زعيم الحزب الشعبي، الاستمرار في قصر "لا مونكلوا" على راس حكومة أقلية ،لفترة ستكون حتما دون مدة الأربع سنوات التي ينص عليها الدستور الإسباني. 

مع الملك محمد السادس وجاك شيراك في احدى المناسبات

 

دور مدريد المحوري في ملف الصحراء 

وتكمن أهمية هذا التطور الداخلي في جارة المغرب، بالنظر الى ان مدريد لها دور محوري وأساسي في ملف الصحراء باعتبارها القوة الاستعمارية المحتلة ، كما ان رئاسة مجلس الأمن الدورية ستؤول الى اسبانيا في الفترة المقبلة.

وعلى العموم ، صار المغرب أكثر ارتياحا للسياسة الخارجية لحكومة مدريد حيال ملف الصحراء، بعد ان جربت الرباط ، مواقفها خلال السنوات الخمس المنصرمة ،بل يمكن القول ان الحزب الشعبي اليميني ، تطور في اُسلوب تعاطيه مع النزاع بشكل أفضل من الحزب الاشتراكي العمالي ، الذي يغازل المغرب بالكلام الطيب ،من دون ان يخطو الخطوة المطلوبة. 

 وبرأي مراقبين فان مدريد سوف تتشجع في المستقبل للعب دور فاعل في نزاع الصحراء بصورة تحفظ مصالحها في المغرب ،مع التعامل بحذر مع الجزائر التي تربطها بها مصالح كبيرة.

الى ذلك، لا تستطيع المعارضة الشعبوية الممثلة في اليسار الفوضوي، التأثير وحدها سواء تحت قبة البرلمان او الشارع ، على توجهات السياسة الخارجية ، اذ سيظل الحزب الاشتراكي العمالي ،المصطف ضمن المعارضة المعتدلة ، احد " الفرامل " الكابحة لغلو اليساريين المتطرفين في حزب" پوديموس"واتباعه من الأحزاب الانفصالية.

ويبقى من السابق لأوانه الحديث عن طبيعة مقاربة الامين العام الاممي الجديد لنزاع الصحراء ، كذلك تجهل الاليات التي سيعتمدها : هل سيبقي على الحالية بتفعيلها ومراجعتها ، ما قد يعني استبدال مبعوثه الشخصي الى المنطقة.

وإجمالا فإن ما يدفع الى التفاؤل الموزون هو ان القادم الى المبنى الشهير في نيويورك ، ليس غريبا عليه، بل هو متعود على مسالكه ومصاعده الخلفية ومكاتبه ،،وهذا سيسهل مأمورياته ومهامه الجسيمة.