محمد الحمامصي: أكد الأكاديمي والباحث المتخصص في المحتوى الرقمي ومجتمع المعرفة وفلسفة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات د.رامي عبود أن الإنترنت خلق نوعا جديدا من الصراعات فيما يسمى بالصراع "الشبكي" وأن المنطقة العربية كان لها نصيب معقول منه في السنوات الأخيرة. وقال "انعكاسات ما اصطلح عليه إعلاميا بالربيع العربي ضمن الإنترنت، أججت صور مختلفة من الصراع الشبكي بحيث تحولنا إلى بيئة تعلم مثالية بالنسبة لدول العالم التي لم تختبر بعد هذا النوع من الصراع. ولكن ينبغي التأكيد على أنه في بعض دول المواجهة مع هذا النوع من الصراع، قد لا يلعب الإنترنت دورا كبيرا في تأجيج الوضع الملتهب على الأرض أصلا، نتيجة تدني معدلات انتشار الإنترنت فيها. ففي العراق مثلا، لا تتجاوز معدلات انتشاره نسبة الـ 10% (حسب الاتحاد العالمي للاتصالات). 

وأشار د.رامي في حوارنا معه حول الإشكاليات الخطرة التي تطرحها تكنولوجيا الإنترنت والتقدم العلمي على مختلف المجالات، إلى أنه "لم نعد بحاجة إلى تحريك الجيوش النظامية أو حتى تمويل ميليشيات غير نظامية من إجل إثارة وتغذية الصراع أو شن حروب بالوكالة. بل إن كل ما نحتاجه، في هذه الحالة، هو هاتف ذكي ووصلة إنترنت كي نبدأ في إثارة القلاقل والتسبب في أزمات سياسية واقتصادية، مثلا، عن طريق تغذية الشائعات أو إثارة النعرات الطائفية أو شق الرأي العام. والآن، بمجرد أن ينطلق هاشتاج محرِّض على الكراهية بين فريقين على خلفية صراع إيديولوجي أو عرقي أو سياسي، يحصل أفراد كلا الفريقين على فرصة مثالية للتنفيس عن مخلفات خطاب الاستعداء الذي يعجّ به الواقع المادي والإنترنتي على حد سواء. وهنا، تبدأ دورة الصراع في مضاعفة وتيرة حراكها وتوسيع قاعدة انتشارها، وقد يتطور الصراع من الطبيعة الكلامية السياسية إلى صراع عسكري على الأرض. نحن نتحدث هنا عن قدرة كوكب الإنترنت الموازي على زعزعة أمن كوكب الأرض. وهنا، يبرز عامل جديد في الصراع يتمثل في الفاعلية الفردية في تشكيل اتجاهات الرأي العام أو حتى في شن هجمات سيبرية.

وقال إن طرق المعالجة لهذه القضية ترتكز على ثلاثة محاور: الأول يتعلق بجمهور الإنترنت نفسه من حيث الارتقاء بوعيه بشأن التبعات المترتبة على مشاركتهم في فضاء الإنترنت وكذلك التوعية بالآداب والقيم المطلوبة، وهي مسألة تتأثر بعوامل أخرى مثل التعليم ودور الأسرة والمناخ الثقافي العام ... إلخ. والثاني، يتعلق بالسلطات المخولة بحفظ الأمن القومي من خلال الرقابة على الإنترنت ومواقع السوشيال ميديا عبر برمجيات عملاقة مخصصة للكشف عن المخاطر ذات الصلة. أما الثالث، فيتعلق بالسلطة التشريعية من أجل إنتاج منظومة تشريعات ديجيتالية بإمكانها أن تحد من أسباب تفاقم الصراع الكلامي وتجريم أية ممارسات عدائية في فضاء الإنترنت قد تهدد أمن المجتمع، لاسيما وأننا نعاني عربيا من قصور كبير في هذا النوع من التشريعات الرادعة. لكن، من المهم هنا خلق توازنات ضرورية بين مجموعة حقوق ضمنية، وهي حق الدولة في حفظ أمنها السيبري، وحق المواطن في التعبير وفي حماية خصوصيته، وحق المجتمع في حرية تداول المعلومات وحرية الوصول إليها.

 

نحتاج هاتف ذكي ووصلة إنترنت كي نبدأ في إثارة القلاقل والتسبب في أزمات سياسية واقتصادية

 

نظرية المؤامرة

وحول اتهام تكنولوجيا الانترنت والاتصالات بدعم الارهاب والتطرف والتشدد، لفت إلى أنه من أكثر الأشياء المغلوطة بشأن الإنترنت والمثيرة حقاً للتأمل، أن ثمة قطاع معقول من المجتمع العربي، يسقطون نظرية المؤامرة على مواقع السوشيال ميديا، مثل ذلك الاعتقاد السائد بأن مؤسس فيسبوك هو عميل للاستخبارات الأمريكية وأن السوشيال ميديا هي واجهة الانتقام التي صنعتها الولايات المتحدة لدعم الجماعات المتطرفة وزعزعة أمن الشرق الأوسط. وهذه السرديات نابعة من التشويش الجاسم على وعي الفرد العربي بطبيعة التحولات المنطوية على تكنولوجيا المعلومات والاتصالات. والمدهش، إن التاريخ يكرر نفسه هنا بالذات، فقد تعرضت تكنولوجيا الطباعة لاتهامات مثيلة في بداية عصور النهضة الأوروبية. نعم، الولايات المتحدة تستغل السوشيال ميديا لخدمة مصالحها مثل أغلب دول العالم، كما تتجسس على الإنترنت داخل وخارج حدودها الجغرافية مما كشف تفاصيله مؤخرا ادوارد سنودن، لكن هذا الأمر لا يمكن أن يكون ذريعة لإغلاق مجالنا المحلي أمام الإنترنت أو شيطنة السوشيال ميديا عن طريق إلقاء المسئوليته الكاملة عليها بشأن الظرف الراهن في الإقليم العربي.

الارهاب والتطرف والتشدد 

وأضاف د.رامي "بالفعل استطاع الإرهاب والتطرف الإيديولوجي استغلال الإنترنت كامتداد لميدانه العملياتي. وخطورة وجود الإرهاب والتطرف ضمن فضاء الإنترنت يتجسد عموما خلال مستويين: أولا استخدام الإنترنت عموما في الاتصال المشفّر بعيدا عن أعين الأجهزة الأمنية، واستخدام السوشيال ميديا في التعبئة ونشر الكراهية والدعوة إلى الأفكار المتطرفة وتجنيد المجاهدين وجمع التمويلات وتلقي التدريب على صناعة العبوات الناسفة ... إلخ. ولهذا، تبذل مواقع السوشيال ميديا على مدار الساعة جهداً كبيراً لحذف أكَّاوِنتات مستخدميها المشتبه في ارتباطهم بهذه الأنشطة، ولكنها عملية مرهقة ونتائجها غير مضمونة مائة بالمائة. بيد أنني أود التأكيد على ضرورة تجاوز المقولات السائدة بشأن المستوى السابق من الصراع مع الإرهاب والتطرف، أي ضمن ما يسمى بحروب الجيل الرابع، إلى مستوى آخر وهو إمكانية استغلال الإنترنت في شن هجمات تؤدي إلى تخريب البنية التحتية المدنية، أي ضمن ما يسمى بالحروب السيبرية. وتزداد خطورة المواجهة مع الإرهاب ضمن هذا المستوى مستقبلا نتيجة التحول التدريجي في طبيعة الإنترنت إلى ما يسمى بـ "إنترنت الإشياء"، بمعنى أن كافة الأشياء في حياتنا أصبحت متشابكة سويا ككتلة متماسكة داخل الفضاء الإنترنت بحيث تدار بواسطة أنظمة كمبيوترية معقدة ومستشعرات وذكاء اصطناعي. وأعني بالأشياء هنا، كل شيء بالمعنى الحرفي للكلمة: السيارات والطائرات والمصانع والمفاعلات النووية والأجهزة المنزلية والروبوتات والآلات والأجهزة الطبية والأحذية ... إلخ. ومن ثم، يمكن توجيه ضربات بُعادِيّة عبر الفضاء السيبري إلى أهداف مختلفة على الأرض.

ومخاطر الهجمات السَيْبَرِيَّة تتجاوز مستوى الخسائر في البيانات إلى الخسائر في الأرواح في حال خروج الهجمات عن السيطرة لتصيب أهداف المدنية. لهذا، تعتبر البنية التحتية للإنترنت بمثابة أصول استراتيجية وتدخل ضمن مسائل الأمن القومي. ربما لم نشهد بوضوح هجمات سيبرية إرهابية تستهدف البنية التحتية المدنية في المنطقة العربية تحديداً، ولكن وجب التحذير. فنحن نتحدث هنا عن مستوى متقدم للإرهاب السيبري من حيث التسبب في تعطيل محطات الطاقة وسرقة البنوك وتدمير السدود والتسبب في انفجارات نووية وتعطيل أنظمة الملاحة والسواتل والتسبب في حوادث طيران ... إلخ. وهذا الأمر ليس من قبيل الخيال العلمي، فقد شهدنا مؤخرا عمليات نوعية مختلفة على مستوى العالم مثل الهجوم الشهير على إحدى محطات تخصيب اليورانيوم في إيران باستخدام برمجية خبيثة تدعى ستكسنت قيل أنها نتاج تعاون مشترك أمريكي ـ إسرائيلي. لكن، على ما يبدو أن القدرات الدفاعية العربية المتوفرة حتى الآن غير رادعة على النحو الكافي، لاسيما في ظل عدم كفاية الخبرات والكوادر البشرية المدربة على حماية الشبكات الوطنية والتصدي لعمليات التخريب مع ملاحظة أن بعض أكاديميات العالم تقوم بتدريس علوم التَهكِير لتخريج كوادر وطنية في هذا المجال. كذلك في ظل نقص قدرات تطوير آليات وأدوات سيبرية هجومية ودفاعية ضمن الفضاء السيبري، فلازلنا نعتمد على استيراد البرمجيات والأجهزة اللازمة من الخارج. لكن، حتى الحلول الأمنية ذات الصلة بفضاء الإنترنت غير كافية من دون معالجة جذور الصراع مع الإرهاب ضمن سياقات أخرى مختلفة في أرض الواقع.

استغلال الإنترنت في شن هجمات تؤدي إلى تخريب البنية التحتية المدنية

 

دور محوري في حسابات القوة

وأكد د.رامي أن الإنترنت عبارة عن مشترَك عالمي، ومن ثم فمن الطبيعي أن ينشأ حوله صراع دولي كذلك الذي نشأ حول مسارات التجارة في أعالي البحار في مطلع الثورة الصناعية أو ذلك الذي سوف ينشأ في المستقبل حول الفضاء الكوني. وسأبدأ سريعا بهذه الحكاية الدالة، في نهاية العام 2014 تم تَهكِير الفيلم الأمريكي the interview قبيل عرضه في صالات السينما. واتهمت الولايات المتحدة كوريا الشمالية بضلوعها خلف عملية التهكير لاسيما وأن الفيلم يسخر من الزعيم الكوري، وعليه أعادت الولايات المتحدة كوريا الشمالية إلى دول محور الشر بعد أن بدت في الأفق محاولات تهدئة بين الطرفين. فضلا عن ذلك، تمثل الهجمات السَيْبَرِيَّة الصادرة من ناحية الصين، خطراً كبيراً على المصالح الغربية، ومنها مثلا حصول المُهَكِرين الصينيين على معلومات سرية عن المقاتلة إف – 35. كما، إن الولايات المتحدة تتكبد خسائر فادحة نتيجة التَهكِير المستمر لبراءات اختراع مملوكة لمؤسساتها الاقتصادية والصناعية والبحثية. مما دعى أحد الخبراء الأمريكيين إلى وصف التجسس السيبري بأنه "أكبر كارثة استخباراتية منذ تسريب الأسرار النووية في أواخر الأربعينيات". 

وأوضح "هكذا الإنترنت بات يلعب دورا محوريا في حسابات القوة ضمن الصراع الدولي، وهناك لاعبون أساسيون ضمن الفضاء السيبري منهم، مثلا الولايات المتحدة والصين وروسيا. فمن يستطيع تهديد أمن الإنترنت واستقراره، أولاً، يستطيع التأثير في صناعة القرار السياسي العالمي، تالياً. وعلى غرار صعود قضية أسلحة الدمار الشامل بعد انتهاء الحرب الباردة، تحتل قضية الأمن السَيْبَرِيَّ الآن أولوية شديدة على أجندة الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وعديد المؤسسات المحلية والدولية. لهذا تجد أن بعض الدول ذات التأثير في الصراع السيبري مثل الصين تستبسل بشدة في مواجهة الضغط الأمريكي من أجل الحيلولة دون دمجها ضمن فضاء الإنترنت العالمي. والولايات المتحدة اضطرت مؤخرا للدخول في حوار مباشر مع الصين لوقف الهجمات السيبرية على المؤسسات الأمريكية، ولكن دون جدوى. فالصين في ذاتها تمثل إنترنت موازي ومغلق وترى نفسها أكبر من الإنترنت، حيث أغلقت مجالها الجغرافي في وجه الإنترنت وكذلك لديها مواقعها الخاصة للسوشيال ميديا ومحركات البحث الخاصة وتطبيقاتها الهاتفية الخاصة. بل إنها تحرض الدول الأسيوية ضد ما تعتبره محاولة الهيمنة على فضاء الإنترنت من قبل الولايات المتحدة. 

إغلاق المجال الوطني

وقال د.رامي أن مسألة إغلاق المجال الوطني أمام الإنترنت تذكِّر بمسألة طريفة ضمن سياق آخر، لعلك تتذكر أن البث المباشر لكأس العالم لكرة القدم في التلفزيون الإيراني، عادة ما يتأخر لبضعة ثواني تمنح التقنيين في محطة التليفزيون فرصة كافية لحذف أو تغطية مشاهد لايف منقولة من المدرجات لمشجعين ربما يرتدون ملابس "خادشة للحياء"، طبعا من منظور الثقافة المحلية هناك. لذا فهي مسألة كلاسيكية لا تتفق مع طبيعة الإنترنت الحداثية. كما أنها ليست بهذه البساطة من حيث الإجراءات والتبعات والفاعلية. وإغلاق المجال هنا يتخذ عدة حالات، منها فصل الشبكات الوطنية الداخلية عن شبكة الإنترنت العالمية، كما في حالة الشبكة الداخلية الصينية ومشروع الإنترنت الوطني الذي أعلنت عنه إيران مؤخرا، لفرض مزيد من الرقابة على مستخدمي الإنترنت داخل الدولة وكذلك الحفاظ على الأمن الوطني السيبري والحد من التجسس على البيانات الوطنية. وقد يتخذ إغلاق المجال صيغة مؤقتة أو جزئية منها مثلا ما أقدمت عليه تركيا من حجب يوتيوب في أراضيها لحين استجابة الأخيرة لطلبها بحذف مقاطع فيديو معينة، ومنها أيضا حجب مواقع السوشيال ميديا بصفة مطلقة داخل إيران، وكذلك حجب بعض مواقع الوِب لأسباب سياسية أو أخلاقية بواسطة تقنية البروكسي proxy في بعض دول العالم. وما يجعل الأمر غير فعّال هو إمكانية تفادي البروكسي أو استخدام الإنترنت بصورة مشفّرة بعيدا عن عيون الرقباء أو بصورة مخفيّة عبر الإنترنت المظلم بعيدا عن الإنترنت التقليدي. كما إن إغلاق المجال الوطني مطلقاً في وجه الإنترنت أشبه بالوجود خارج الزمن، فلدينا كوريا الشمالية مثلا نموذجا فجّاً للبلدان التي تتيح شبكة داخلية محدودة الخدمات وتلقي القبض على المتصلين بالإنترنت. إلا أن ذلك لم يتغلب على رغبة المواطن الكوري في الانوجاد في فضاء الإنترنت حيث يضطر إلى الذهاب حتى الحدود الجنوبية والاتصال خلسة بالإنترنت عن طريق شبكات الموبايل الخاصة بالجارة الكورية. 

وكشف د.رامي أن قضية إذابة الحدود الفاصلة بين الإنسان والآلة، التي عالجها في كتابه الأخير"ديجيتولوجيا" ليس خيالا علميا بحتا، وإنما مسار بحث علمي جاد في العقود الأخيرة. وقال "في المستقبل، سوف يتداخل ما هو بيولوجي وما هو آلي إلى حد لا يمكن التمييز بين كل منهما. ومن ثم، نكون بصدد صورة أخرى من صور الوجود الإنساني وقطيعة حتمية مع الطبيعة الإنسانية السائدة. ومجالات البحث المعنية بهذا الأمر عديدة، مثلا لاحظنا أخيرا نجاح عمليات تركيب أطراف تعويضية آلية وأعضاء غير بيولوجية عبر توصيلها مباشرة بالجهاز العصبي للإنسان. كما نجحت مختبرات البحث في إنتاج نماذج أولية من روبوتات ذكية تعمل بواسطة مخ فأر معزول ومستنبَت داخل حاوية مستقلة. حسب الباحثين القائمين على هذا المشروع، أنه في كل مرة يتم استبدال المخ المستخدم بآخر، فإن سلوك الروبوت يتغير حسب طبيعة المخ الجديد. كذلك، نحن نتحدث عن ظهور روبوتات هِيُومَنْدِيّة في المستقبل، والتي تشبه البشر من حيث الشكل الخارجي والوظائف الداخلية بحيث يصعب التفريق بينهما، وهي قادرة على محاكاة الحواس البشرية، بل والتناسل، ولكن ليس على طريقة تناسل البشر بالتأكيد. وهي أمور تسهم جميعا في إعادة تشكيل مفاهيمنا التاريخية بشأن طبيعة وجودنا، فعلى سبيل المثال، بظهور روبوت أنثى هِيُومَندِيّ، تصبح مركزية المرأة والأسرة في المجتمع موضع تهديد. فضلا عن ظهور تغيرات إرهاصية في التكوين الاجتماعي والسيكولوجي للإنسان المعاصر في علاقته بالآلة، فمثلا ثمة روايات متواترة عن إقدام بعض الجنود الأمريكيين على المخاطرة بأنفسهم في ميدان المعركة من أجل إنقاذ روبوتات تستخدم في تفجير الألغام أو التجسس على الخطوط الأمامية للعدو. النقطة هنا، سوف تفرز الثورة التكنولوجية سرديات ومفاهيم مستقبلية مغايرة تماما لما هو سائد الآن. ومن ثم، علينا البدء في الاستعداد للمستقبل والتكيف معه وإلا أُصبنا بصدمة حقيقية في المستقبل.

وأكد أن معدلات انتشاره عربياً تقترب من المعدلات العالمية. ومن ثم لا يمكن النظر إلى الظواهر العربية المنبثقة عن الإنترنت بمعزل عن جذورها في المجتمع الدولي. فالكتلة البشرية الهائلة من مستخدمي الإنترنت (أي ما يقترب من نصف سكان العالم)، باتت تشكل عالم موازي للعالم المادي أو حيز عام دولي عابر للجغرافيات والقوميات والإثنيات واللغات والإيديولوجيات، بحيث يدفع بقوة الجماعات المحلية على امتداد جغرافية الأرض نحو صور مختلفة من التغيير. وهنا، تكمن تجليات الصراع الأمر الذي يخلق بدوره ظواهر وتحولات جديدة، ضمن سياقات عديدة اجتماعية واقتصادية وسياسية وثقافية وهوياتية وإيديولوجية .. إلخ. 

الظواهر المؤثرة للانترنت 

ورصد د.رامي لأبرز الظواهر المترتبة على انتشار الإنترنت عربيا، ولخصها بما يلي:

أولا: انتشار اللهجات العاميّة في الفضاء الثقافي الرسمي لاسيما النصوص المكتوبة، وتصاعد الرغبة في إحياء الهويات التاريخية والحضارية القديمة لسكان الشرق الأوسط. وكلاهما يأتي كمظهر من مظاهر التحلل من الموروث والتمرد على التقاليد أو في إطار نقد مركزيات الثقافة المحلية نتيجة اصطدامها بالثقافة العالمية عبر الإنترنت. فقد ساعد الإنترنت في إعادة تشكيل الوعي الفردي، بحيث أعاد صياغة تصوراتنا عن الذات والآخر والوجود. وهنا، باتت طبيعة إنسان الإنترنت وردود أفعاله، تختلف عنها في حالة إنسان ما قبل الإنترنت. كما أدخل الإنترنت مفاهيم ومعاني جديدة إلى مجتمعنا المحلي وأعاد تشكيل مفاهيمنا وقيمنا السائدة. وهنا، ظهرت أيضا بوضوح مفاهيم حرية التعبير وحرية تداول المعلومات، وانتقلت ممارساتها من الفضاء الشبكي إلى أرض الواقع. كذلك، استطاع الإنترنت نشر آلية التفكير النقدي، مما أزاح المتلقي السلبي وأقام محله متلقي آخر قادر على التأثير في الحدث، لاسيما في ظل استغلال أدوات السوشيال ميديا في خلق رأي عام جديد. وهناك ظاهرة أخرى تتمثل في مشاركة جمهور التلقي في تشكيل الرسالة الإبداعية أو النص، عبر التأثير الآني للمتلقي في صناعة النص وإعادة تشكيله عن طريق التفاعل معه. 

ثانيا: نشهد ظاهرة تلاشي الإعلام الجماهيري نتيجة قدرة جمهور الإنترنت صناعة إعلامه المستقل والفردي في السوشيال ميديا ككيان إعلامي موازي، لاسيما بعد تدشين خدمة الفيديو المباشر في فيسبوك ويوتيوب وغيرها. وبالتوازي حدثت ظاهرة أخرى تتمثل في إزاحة وإحلال النخب التقليدية، فظهرت فئات نخبوية جديدة في المجال العام، لاسيما من نطلق عليهم متَنَفِّذِي أو نجوم السوشيال ميديا. وتمكن جمهور الإنترنت من صناعة خطابه الخاص في مواجهة الخطاب السائد والرسمي، والحصول على فرص متساوية لتدافع الرأي داخل المجال العام. ولهذا، لم تعد تنطبق صفة "الجماهيري" على مؤسسات الإعلام التقليدية في عصر باتت تنطبق عليه حقاً مقولة "لكم إعلامكم وليَ إعلام". والحق، ليس هناك سلام حقيقي بين إعلام الإنترنت وما تبقى من الإعلام التقليدي. 

ثالثا: بدأنا نلاحظ ظواهر ناتجة عن ارتطام موجات الضغط الصادرة من الإنترنت بالمنظومات الاجتماعية السائدة والبنيات الداخلية المستقرة والمؤسسات التقليدية. وأبرز مثال على ذلك، هو عملية الإزاحة التدريجية لمؤسسة النقل التقليدية بواسطة تطبيق أوبر الشهير والتهديد بانقراض التاكسي. وهذه المنافسة تحديدا أدت إلى ظاهر انعكاسية تمثلت في سعي شركات التاكسي في منطقتنا العربية إلى مراجعة معاييرها وخفض تكلفة النقل ورفع جودة خدماتها، من أجل تدارك خسائرها بعد ظهور أوبر. وعلى مستوى الأسرة، تراجعت سلطة الأبوين في مقابل سلطة الإنترنت في تشكيل وعي وهوية الأبناء. أعني على وجه الخصوص أطفالنا الذين استطاعوا تشكيل فضاءهم الاجتماعي الموازي داخل الإنترنت، والحصول على استقلالية مبكرة وتحرر من نفوذ العادات والتقاليد الأسرية. فتجدهم على سبيل المثال لا يتوجهون إلى الأبوين بالتساؤلات المختلفة التي تشغلهم في مرحلة الطفولة كما هي العادة، وإنما إلى "سيري" مثلا وهي برمجية خاصة بأجهزة أبِل عبارة عن مساعد ذكي يتحدث ويفهم اللغة المحكية الطبيعية. وهكذا فإن مجال رصد هذه الظواهر واسع جدا ويحتاج إلى تعاون الباحثين من قطاعات علمية عديدة. ولكن النقطة الأهم هنا، إن تلك الظواهر وغيرها، والتي تأخذ صور مختلفة من التنافس أو حتى الصراع العنيف أحيانا، هي انعكاس لصراع آخر خفي ومتعالي، أعني الصراع فيما بين نموذجين للوجود أو نسقين فكريين، أي الباراديم الصناعي والباراديم ما بعد الصناعي، وكلاهما انبعثا بالتزامن مع ملحمة تحول المجتمع العالمي من مجتمع صناعي إلى مجتمع معرفة.

يذكر أن د.رامي عبود أصدر العديد من الدراسات منها "نحو استراتيجية عربية لصناعة المحتوى الرقمي"، و"المحتوى الرقمي العربي على الإنترنت"، و"الكتب الإلكترونية"، و آخرها "ديجيتولوجيا: الإنترنت.. اقتصاد المعرفة.. الثورة الصناعية الرابعة.. المستقبل" الصادر عن دار العربي.