كيف تقرأ وزيرة الخارجية الأميركية السابقة مادلين أولبرايت ومستشار الأمن القومي الأسبق ستيفين هادلي التطورات في الشرق الأوسط؟ تقرير عن المجلس الأطلنطي، ومن مؤسسيه وداعميه بهاء الدين رفيق الحريري، يشرح ذلك.

إيلاف من واشنطن: نشرت «مجموعة عمل استراتيجية الشرق الأوسط»، المنبثقة من المجلس الأطلنطي، تقريرها لعام 2016، ضمّنته رؤيتها لمستقبل الشرق الأوسط، ولطرائق التعامل الأميركي مع التطورات المتسارعة في المنطقة،

بهاء الدين الحريري هو الابن البكر لرئيس الوزراء اللبناني الراحل رفيق الحريري وهو من مؤسسي المركز ومدير مجلسه الاستشاري

خصوصًا أن الشرق الأوسط يشهد منذ قرن انهيارًا في نظامه السياسي، وصراعًا غير مسبوق على السلطة، داخل الدول وبينها، وصعود عناصر متطرفة، مع ما يصاحب ذلك من تغيرات ديموغرافية مثيرة للقلق.

رسالة الرئيسين

في تقديم للتقرير، يقول رئيسا المجموعة، مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة، وستيفين هادلي، مستشار الأمن القومي في عهد الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش، في رسالتهما إن للتطورات في الشرق الأوسط، الإيجابية أم السلبية، انعكاسات عميقة، ليس على الشرق الأوسط فحسب، لكن أيضًا بالنسبة إلى الولايات المتحدة وأوروبا وباقي العالم، «وهذا هو السبب الذي دفعنا، تحت رعاية المجلس الأطلنطي، إلى تأسيس (مجموعة عمل استراتيجية الشرق الأوسط) في فبراير 2015».

تضيف أولبرايت وهادلي أن هذا التقرير يسعى إلى تجاوز النهج المشتعل لمشكلات المنطقة، وإلى فهم القوى المعقدة التي تُشكل الشرق الأوسط اليوم، وإلى اقتراح كيف يمكن للشركاء المحليين والإقليميين والدوليين التعاون لوضع المنطقة كلها في مسار أشد إيجابية على المدى البعيد.

ويتابعان: "لا يتناول هذا التقرير في جوهره وضع استراتيجية الولايات المتحدة في المنطقة، حتى لو تحملت الولايات المتحدة مسؤولية إصلاح علل المنطقة، بل هو محاولة لوضع استراتيجية للمنطقة مستوحاة من المنطقة نفسها، على أن تتولى حكومات المنطقة وشعوبها زمام المبادرة في تنفيذ هذه الاستراتيجية إذا أريد لها النجاح، يمكن الولايات المتحدة وأصحاب المصالح الخارجيين المساعدة في ذلك".

 

مادلين أولبرايت وستيفن هادلي يقرآن مستقبل المنطقة

 

تغيير المسار السياسي

في تقريرها، قالت المجموعة إن القلق نابع من احتمال اندلاع أزمة عالمية تنطلق من الشرق الأوسط، «تهز معظم أنحاء المنطقة بسبب العنف وعدم الاستقرار، في حين يظهر هذا التهديد وواقع الإرهاب والاضطراب في ما هو أبعد من ذلك؛ وبينما يعد ذاك التهديد وذاك الواقع واضحين، فهذا التقرير بمثابة أمل في مستقبل أفضل، فالشرق الأوسط مليء بالفرص، لا بالتحديات فحسب».

لاستثمار هذه الفرص المتاحة، ترى المجموعة ضروريًا تغيير المسار السياسي في المنطقة، من حقبة فشل الدولة والحرب الأهلية إلى نظام مستقر سلمي لدول ذات سيادة، وفي هذا مصلحة مشتركة لدول وشعوب الشرق الأوسط وللولايات المتحدة في آن واحد.

تقترح المجموعة نهجًا استراتيجيًا جديدًا يؤكد الشراكة مع شعوب المنطقة، «والمطلوب من قادة المنطقة وشعوبها أن يتحملوا المسؤولية الكاملة عن رسم رؤية إيجابية جديدة لمجتمعاتهم»، بينما تساعد الولايات المتحدة والأطراف الأخرى في حل الصراعات التي تحول دون تحقيق أي رؤية للمنطقة، «فالشراكة التي نتصورها تمد يدها إلى مجموعة كاملة من الجهات الإقليمية الفاعلة، لا إلى الحكومات وحدها، فتبادر القوى الخارجية مع الجهات الإقليمية الفاعلة إلى وقف الحروب الأهلية والتخفيف من المعاناة الإنسانية والتخلص من داعش، وتعمل الجهات الإقليمية الفاعلة على استغلال الثروة البشرية غير المستغلة من الشباب والنساء».

تعزيز قوى المعارضة

 

سوريا غارقة في العنف - صورة لرجل سوري بين الدمار في أحد أحياء حلب

 

يقول التقرير إن تحقيق الأمن والسلام قابل للتنفيذ، ويبدأ في دول المنطقة الأربع الغارقة في الصراع الأهلي. يضيف: "في سورية، توفر انتهاكات نظام الأسد حقوق الإنسان بيئة مناسبة لداعش كي تجنّد الأتباع، ويجب الحد من هذه الانتهاكات، عسكريًا إذا لزم الأمر، ومن المحتمل أن يثبت العمل العسكري ضروريته، ويجب تعزيز قوى المعارضة لحماية المدنيين من نظام قاتل وقتال تنظيم داعش والقاعدة بدعم خارجي متنام، ويجب الإسراع في هزيمة داعش في سوريا، والبدء في عملية المصالحة وإعادة إعمار البلد المدمر، واستخدام الجهد العسكري الداعم وسيلة ضغط لدفع النظام وداعميه الخارجيين في اتجاه الحل السياسي". 

بالنسبة إلى مجموعة عمل استراتيجية الشرق الأوسط، إن كانت سورية ستبقى كيانًا واحدًا، يجب على الحكومة السورية المعاد تشكيلها توفير المزيد من الحكم الذاتي والموارد التي تمكن المحافظات والحكومات المحلية من تحمل مسؤولية أكبر تجاه مواطنيها، وإعطائهم حرية أعظم لتقرير مستقبل بلادهم، "وهذا أنموذج جديد للحكم الوطني المهم، ليس للدول الخارجة من حرب أهلية فحسب، ولكن أيضًا لدول المنطقة التي تسعى إلى تعزيز شرعيتها".

الأنموذج العراقي

 

عناصر من القوات العراقية

 

أما في العراق، فيرى تقرير المجموعة أن على الجيش الوطني أن يتولى زمام المبادرة في هزيمة داعش، «فربما يؤدي ترك هذه المهمة للميليشيات الشيعية إلى تسريع دوامة السقوط في العراق، فيجب أن تركز الحكومة العراقية مرة أخرى، مع الدعم الخارجي القوي والتشجيع، على المصالحة وتحقيق الاستقرار. ويستلزم هذا الأمر تلبية الاحتياجات الإنسانية، والتغلب على التوترات الطائفية، واستعادة الحكم المدني الفاعل، وتحفيز الانتعاش الاقتصادي في المناطق المحررة».

كما يعتمد بقاء العراق دولة موحدة على حكومة ضامنة أكثر صدقية للمصالح العربية السنية من تنظيم داعش. وسيتطلب الأمر أنموذجًا جديدًا للحكم، كما في حالة سورية. 

في ليبيا، يدعو التقرير الأوروبيين إلى أداء دور قيادي على شركائنا الأوروبيين، «ويُطلب من القيادة الأميركية دفع أوروبا المنقسمة حاليًا والفاعلين الخارجيين إلى توفير الدعم لحكومة الوفاق الوطني، بدلًا من الفصائل الإقليمية».

وتطرق التقرير للصراع في اليمن، فرأى ضرورة إقناع الأطراف الخارجية الفاعلة السعودية بإعطاء الأولوية لحل سياسي، مع توقف العمليات العسكرية الحوثية قرب الحدود السعودية وعبرها.

ردع التدخل الإيراني

في انتظار تطبيق حل الدولتين للصراع الإسرائيلي الفلسطيني، رأى التقرير وجوب أن يستمر بناء مؤسسات الدولة الفلسطينية المستقبلية، وتشجيع إسرائيل على تعزيز التعاون الاقتصادي والأمني مع السلطة الفلسطينية الراهنة.

قال التقرير إن التغيرات السياسية في تركيا تستدعي حوارًا استراتيجيًا صلبًا بين واشنطن وأنقرة، فهذا الأمر غاية في الأهمية، لا لمعالجة المسائل ذات الاهتمام المشترك فحسب - كتدفقات اللاجئين وداعش ونظام الأسد - لكن أيضًا لحل القضايا الراهنة في العلاقات الثنائية بين الولايات المتحدة وتركيا، بما في ذلك العلاقات مع الأكراد السوريين.

ويطلب التقرير ردع التدخل الإيراني في العالم العربي "فيجب أن يطمئن أصدقاء الولايات المتحدة وشركاؤها إلى أنها تعارض الهيمنة الإيرانية وتعمل معهم لمنعها".

وبما أن مسألة اللاجئين أساسية وتمثل مشكلة تكبر ككرة الثلج، طالبت المجموعة في تقريرها توفير حاجاتهم الأساسية ودعم دمجهم الاقتصادي في البلدان المضيفة، وتمكينهم من العودة إلى ديارهم، مع الاعتراف بضرورة تقديم مساعدة مستدامة للدول التي تحمل العبء الأكبر من نزوح اللاجئين، كالأردن ولبنان وتركيا.

إطلاق الإمكانات البشرية والاقتصادية

يؤكد تقرير «مجموعة عمل استراتيجية الشرق الأوسط» أن تحقيق الإصلاحات في دول المنطقة مهمة صعبة تستدعي تحرك الدول الإقليمية بحزم نحو إنشاء عقد اجتماعي عصري يُمَكّن المواطنين ويكرس المساءلة، كي يؤتي الاستثمار في رأس المال البشري الاقليمي ثماره، "والخطوة الأهم تطوير رأس المال البشري في المنطقة لضمان أن يكون التغيير مستدامًا، والتعليم مفتاح الحل، فلا بد من رصد استثمار استراتيجي في تعليم جيد ملائم للقرن الحادي والعشرين، وإصلاح المؤسسات التعليمية".

من ناحية أخرى، يوصي التقرير بدعم الإصلاحات التنظيمية وتسهيلها لتخفيف القيود من أجل تحقيق أكبر قدر من التجارة والاستثمار والتكامل الاقتصادي، مع التركيز بشكل خاص على أصحاب المشروعات، "وهذا يضمن أن يجد المواطنين المتعلمين فرصة عمل بمجرد استكمال دراستهم، ولا ينبغي أن تقف الحكومات حجرة عثرة في مسير الإبداع الاقتصادي، فالبيئة القانونية والتنظيمية التي تمكن ريادة الأعمال من الازدهار وإيجاد نظام إيكولوجي للابتكار ضرورية، كذلك تعد بمثابة حماية وحوافز للاستثمار الأجنبي المباشر، ويعد أيضًا تحويل الإعانات المالية إلى مساعدات موجهة للفقراء، وإيجاد بنوك مركزية مستقلة ومتمكنة من الأمور ذات الأهمية الحيوية. كما ينبغي أيضاً خفض الحواجز التجارية وإزالتها في نهاية المطاف".

الحكم الرشيد أولوية

في سياق الاصلاحات التي يلفت إليها التقرير، يتحدث عن الحكم الرشيد، ويضعه في مقدم الأولويات. فيجب أن يتزامن توفير الأمن في مواجهة الإرهاب من دون المساس بحقوق المواطنين مع اجتثاث الفساد، وتيسير الخدمات الأساسية، وتحقيق احترافية الأجهزة الأمنية، وتمكين الحكومات المحلية لحل المشكلات المحلية. 

يرى التقرير أن بإمكان الشرق الأوسط أن يجني أرباحًا هائلة من إنشاء صندوق التنمية الإقليمية لإعادة الإعمار والإصلاح، "فغياب مؤسسة كهذه من شأنها أن تشمل المشاركة من داخل وخارج المنطقة أمرٌ ملحوظ، وينبغي على الدول الإقليمية اقتراح وتصميم وتمويل مثل هذا الصندوق، وتحفيز المجتمع الدولي لتقديم مساهمات ملائمة. ويمكن للصندوق، في ممارساته الإقراضية، تشجيع تنمية القطاع الخاص، والاعتماد على نماذج مؤسسات التنمية الإقليمية الأخرى مثل البنك الأوروبي للإنشاء والتعمير، فهو يمكن أن يدعم الأعمال والمشاريع التعاونية التي تخرج من الإطار الإقليمي".

مواجهة التحديات الجيوسياسية

 

مادلين أولبرايت

 

بحسب التقرير، تعمل الاستراتيجية التي تصوغها المجموعة ذات الشقين، أمني واقتصادي، تعمل في سبعة مسارات متوازية:

أولها، ميثاق الشرق الأوسط الذي ستعمل الولايات المتحدة وأوروبا وشركاء آخرين بموجبه مع دول المنطقة لزيادة جهودهم المشتركة من أجل مواجهة التحديات الجيوسياسية العاجلة للسلام في المنطقة، كما ستتخذ دول المنطقة خطوات تؤدي إلى شرق أوسط أكثر استقرارًا وشمولًا، وأفضل حكمًا؛

وثانيها، نهج مختلف لمساعدة اللاجئين والنازحين داخليًا ودعمهم، فبدلًا من أن يكونوا عبئًا يمكن أن يكونوا محركًا للتغيير والتقدم؛

وثالثها، إصلاح تنظيمي جذري، فالحكومات تحتاج إلى تهيئة البيئة التمكينية اللازمة للبراعم الخضراء للتغيير من أجل أن تترسخ وتزدهر. ويحتاج أصحاب الأعمال التجارية إلى إطار قانوني ومناخ تنظيمي يساعد على الاستثمار والابتكار؛

ورابعها، عقد اجتماعي عصري للمنطقة، فالعقد القديم الذي تقدم بموجبه الحكومات الخدمات والأمن في مقابل الحق في الحكم صار عرضة للانتقاد في أنحاء المنطقة كلها.

أنموذج حكم وصندوق تنمية

خامس هذه المسارات أنموذج جديد للحكم الوطني للدول التي تشهد صراعًا من أجل تحقيق أفضل استيعاب لتنوعها العرقي والثقافي والديني الثري، إضافة إلى الحقائق الاقتصادية الجديدة وزيادة رغبة الناس في أن يكون لهم رأي في شؤونهم الخاصة؛

وسادسها، إطار إقليمي ملائم إذ قال خبراء من المنطقة إن من شأن إطار للحوار الإقليمي وتسوية المنازعات وتعزيز التجارة والتكامل الاقتصادي أن يساهم في إخماد التوترات الإقليمية وفي بناء الازدهار؛

وسابعها، صندوق التنمية الإقليمي لإعادة الإعمار والإصلاح، فالمنطقة تحتاج إلى صندوق تنمية لتمويل مشروعات البنية التحتية الاقتصادية والاجتماعية، لأنها المنطقة الوحيدة في العالم التي تفتقر إلى مؤسسة فاعلة متعددة الأطراف من هذا النوع.

تمول دول الخليج النفطية اليوم مشروعات تنموية في المنطقة، لكن على قاعدة ثنائية حيث تستفيد الدول المانحة والدول التي تتلقى الدعم الاستفادة من النهج الأكثر مؤسسية، بالأموال التي يديرها فريق عمل احترافي، والتي يتم توزيعها وفقًا لمعايير محددة سلفًا، وتخضع لأعلى معايير من المحاسبة. وتستطيع دول المنطقة نفسها تصميم الصندوق وتوفير التمويل الأولي، وتحفيز أصحاب المصلحة الخارجيين للانضمام وتنسيق جهودهم. وسيعمل ذلك وفقا لمبدأ "الأكثر مقابل الأكثر".

يشار إلى أنّ بهاء الدين الحريري هو الابن البكر لرئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، وهو من مؤسسي المركز ومدير مجلسه الاستشاري.