باريس: تشير الاحصائيات الاخيرة إلى أن الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك الذي حكم البلاد من عام 1995 الى عام 2007 يحظى راهنًا بشعبية كبيرة، وهناك نسبة عالية من الفرنسيين الذين اصيبوا بالخيبة خلال فترة حكم اليميني نيكولا ساركوزي والاشتراكي فرانسوا هولاند يحنّون إلى فترته، غافرين له اخطاءه ومساوئه وانزلاقاته المالية التي بسببها حكم عليه بالسجن لمدة عامين مع تأجيل التنفيذ، وذلك عام2010. وهو ما اجبره انذاك على الاستقالة من"المجلس التشريعي" ليعيش حياته بعيدًا عن صخب السياسة ومعارك السياسيين التي قد تخفت لفترة قصيرة، ثم لا تلبث أن تستعر من جديد بأشد ضراوة من ذي قبل.
 
ومنذ سنوات يعاني الرئيس شيراك، المولود في الدائرة الخامسة بباريس في الثاني والعشرين من نوفمبر(تشرين الثاني) 1932، من متاعب صحيّة خطيرة اجبرته على الحدّ من تحركاته وتنقلاته. وتقوم ابنته الكبرى كلود برعايته والاعتناء به، حريصة على ان يظل والدها حتى النهاية محافظًا على كرامته، وعلى كبريائه الرئاسي. مع ذلك هي تسمح له باستقبال بعض الزوار، وبالتجول كل مساء في جادة "سان جرمان - دي بريه"، والجلوس في "الكونكورد" ليشرب بيرة "كورونا" التي يحبها كثيرًا. أما لحم رأس العجل، طبقه المفضل، فقد اصبح محرومًا منه. غير ان الهواية الحقيقية لجاك شيراك في شتاء عمره هي "الرحلة الخيالية" التي يقوم بها الى العهود الغابرة ليستكشف الحضارات القديمة، الافريقية، والصينية، والهندية، وغيرها، والتي كان منبهرًا بها منذ طفولته، وسنوات شبابه، والتي ظلّ متعلقًا بها حتى عندما انشغل بالسياسة وغرق في معاركها وحروبها الكثيرة. 
 
 
 
وفي هذا الوقت العصيب الذي يعاني فيه من ترجرج ومن ضبابية في الذاكرة، هو يحب ان يستعيد فصولاً من سير العظام القدماء من امثال ماركو بولو، وجنكيز خان. ويقرأ كتباً عن الثقافات التي انقرضت في القارة السوداء، وعن شخصيات سياسية ودينية تركت بصمات واضحة في الذاكرة الانسانية.
 
والذين بحثوا في سيرة شيراك يشيرون إلى أنه كان مفتونًا منذ صباه بالحضارات والشخصيات القديمة. وكان يحلم أن يكون مغامرًا يجوب البحار والمحيطات والقارات والبلدان المتوحشة. وربما ظلمه التاريخ حيث حرمه من أن يكون غير ما كان يحبّ ان يكون، ورمى به في واقعية عالم السياسة مبعدًا اياه عن عالم الاحلام والخيال الجامح.
 
وفي تحقيق نشر اخيرًا في الأسبوعية واسعة الإنتشار"لوبس"، أشار الصحافي الفرنسي سيرج رافّي الى أن شيراك قام في يوم من ايام شهر فبراير (شباط ) 2013 بزيارة الى مقبرة روسيّة في منطقة "ايسون" ليقف خاشعًا امام قبر معلمه الروسّي فلاديمير بيلانوفيتش الذي توفي في الثالث عشر من شهر يونيو (حزيران) 1960، وكان قبره الى جانب قبر المخرج الروسي الشهير تاركوفسكي. والذين رافقوه الى هناك لاحظوا ان عيني الرئيس اغرورقتا بالدموع في لحظة من اللحظات وهذا دليل على التأثر البالغ الذي استبد به. وقبل ان يغادر، همس الرئيس وهو على وشك ان ينفجر باكيًا: ”انا سعيد بأن اراك ... وداعا يا بيلانوفيتش!”. 
 
بعدها دخل الى الكنيسة الاورثوذكسية ليصلي على روح معلمه الاول. وبطلب منه تلا جان دو بواشي الذي كان كاتب دولة (وزير دولة) للتعليم في حكومته، خطبة دينية بلغة بوشكين. وقد اندهش مرافقوه اذ ان شيراك ينتسب الى عائلة لائكية. بل ان جده كان اشتراكيًا راديكاليًا يظهر رفضاً قاطعاً لكل اشكال الايمان. ويبدو ان الرئيس الثاني والعشرين لفرنسا لم يعد يهتم بعد ان بلغ من العمر عتيّا لا بالحاضر ولا بالمستقبل، بل بالماضي القريب والبعيد، مهملا تمامًا فترة امجاده وغزواته السياسية.
 
وكانت عائلة شيراك قد كلفت في أول عقد الخمسينات من القرن الماضي فلاديمير بيلانوفيتش بتدريس ابنها لغة بوشكين. وقد ارتاح الفتى جاك الذي كان قد شرع انذاك يرتاد المتاحف للتعرف على فنون الحضارات القديمة لهذا القرار، مسلّمًا نفسه عن طواعية لهذا الروسي الابيض الذي كان قد شغل منصب سفير بلاده لدى الهند قبل اندلاع الثورة البلشفية.
 
فلما انهار النظام القيصري فرّ الى فرنسا ليعمل في مصنع "رونو" للسيارات، ثم سائق تاكسي. في الان نفسه كان يُعلّم ابناء العائلات الكبيرة لغة بلاده واللغة السانسكريتية التي تسمى "لغة الالهة". وبهذه اللغة حاول شيراك ان يقرأ "الماهابهارتا"، كتاب الهنود الشهير غير انه لم يفلح في ذلك. لكن بمساعدة معلمه الذي كان يتحلى باخلاق النبلاء الروس، والذي كان يحظى بغرفة خاصة في البيت العائلي، تمكن من أن يتعرف على ملامح من الادب الروسي. 
 
ولكي يتأكد بيلانوفيتش من ان تلميذه حذق لغته الام، طلب منه أن يترجم عملين نثريين لبوشكين ففعل ذلك من دون أيّ تردد. وحال الانتهاء من ذلك أرسل بهما الى البعض من دور النشر. فلما لم يتلقَّ ردًّا منها، نسى الامر وما عاد يذكره ابدًا.
 
وقد كتب أحد كتاب سيرته يقول: "لو اصدرت احدى دور النشر ترجمات شيراك لبوشكين لكانت مسيرته قد تغيّرت. فلعله يصبح عندئذ مترجمًا أو عالمًا في الانثروبولوجيا أو في الحضارات القديمة. الشيء المؤكد هو أن هذا الرجل لا ينسجم مع ما يتصل بالطموح السياسي. وهو لا يتحمل العراقيل. وحالما يحسّ أنه سوف يكون مقيدًا بشيء ما، يفر هاربًا".
 
جاك شيراك عام 1976
 
 
 
وفي سنّ السابعة عشرة، قام شيراك بمغامرته الاولى. فقد انطلق الى مدينة "لوهافر" ليركب باخرة كانت مسافرة الى الجزائر. وبعد استراحة هناك تجول الفتى خلالها في حيّ "القصبة"، واصلت الباخرة طريقها باتجاه مليلية (تحتلها اسبانيا شمال المغرب).
 
وأثناء الرحلة، أظهر شيراك اعجابًا كبيرًا بقائد الباخرة الذي كان يتحدث بفخر عن مغامراته البحرية، ويخاطب البحارة بلهجة القائد المحنك الواثق من نفسه، والعالم بأسرار البحار. وعند عودته، وجد الفتى جاك والده في إنتظاره في ميناء "لوهافر" ليوبخه بقسوة بسبب تمرده المبكر على العائلة المعروفة بصرامتها وجديتها.
 
بعد حصوله على شهادة البكالوريا (الثانوية العامة)، درس جاك شيراك العلوم السياسية، ثم التحق بمدرسة الادارة التي يتخرج منها كبار اطر الدولة الفرنسية. وفي هذه الفترة من حياته، بدأ ينشغل بالسياسة منجذبًا الى الجنرال شارل ديغول الذي لن يلبث ان قرر هجر السياسة ليموت في قريته الشمالية الباردة والكئيبة مثل فيل عجوز.
 
وفي عقد السبعينات من القرن الماضي، عين الرئيس جيسكار ديستان جاك شيراك رئيسًا للحكومة وذلك من عام 1974 الى عام 1976. بعدها اسس حزبًا سياسيًا سمّاه "التجمع من اجل الجمهورية". وعلى مدى سنوات طويلة، كان رئيسًا لبلدية باريس. كما كان رئيسًا للحكومة في عهد الرئيس فرانسوا ميتران. لكن طوال جميع هذه الفترات، وحتى في فترة رئاسته التي استمرت 14سنة، لم ينسَ شيراك غرامه القديم بالحضارات والثقافات القديمة.
 
ويروي جان-لوي دوبريه أنه كان يرأس البرلمان عام 1994. وفي احدى الجلسات التي كان النواب فيها منشغلين بمناقشة قضية مهمة تتعلق بالواقع السياسي في البلاد، اخرج شيراك كتابًا يتحدث عن الحضارات القديمة، وغرق في قراءته.
 
وفي اليوم التالي، جاء بثلاثة كتب، وراح يسطر باللون الاصفر الفقرات التي كان قد قرأها. بعدها التفت الى رئيس البرلمان وهمس له: ”نحن لا شيء امام الحضارات القديمة!”. وتقول أغاث سانسون التي كانت ملحقة صحافية في فترة رئاسته: "اذا ما اردتم أن تفهموا جاك شيراك فإنه يتوجب عليكم ولوج كاتدرائيته الداخلية. فكريستوف كولومبس ليس بطلاً بالنسبة له. بل هو واحد من اكبر السفاحين في تاريخ العالم. وربما لهذا السبب كان يستهويه احيانًا ان يشاهد افلام "الويسترين" الاميركية ليعاين المجازر الفظيعة التي ارتكبها البيض في حق الهنود الحمر. وامام استغراب الجميع، قال ذلك للملك الإسباني خوان كارلوس في الإحتفال الكبير والمهيب الذي أقيم في مدريد بمناسبة مرور 500 سنة على اكتشاف أميركا. وعندما كنّا في قصر الاليزيه، عرفنا انه يهتم كثيرا بالصين في عهد "المينغ"، بل بكل الحضارات القديمة مثل الحضارة الفارسية، والحضارة العربية، والحضارات البدائية". 
 
في زيارة الى غيانا في كانون الاول (ديسمبر) 1976
 
 
وعندما كان شيراك رئيسًا لبلدية باريس، نظم معرضًا مهمًا عن هنود "التينوس" الذين انقرضوا. كما زار جبالاً في اليابان ليختلي بنفسه".
 
ويرى ستيفان مارتين ان غرام شيراك بالحضارات القديمة يجعله يظهر في كثير من الاحيان نوعاً من الإحتقار الى الحضارة الغربية، منتقدًا الذين يعتبرون هيمنتها على العالم شرعية وضرورية. ولما ذكر نيكولا ساركوزي في خطابه الذي ألقاه في العاصمة السنغالية داكار بأن "الرجل الاسود لم يدخل بعد التاريخ"، انزعج شيراك انزعاجًا شديدًا، وعلق قائلاً بأن الذي تلفظ بمثل هذا الكلام "جاهل بأصول التاريخ".
 
وردًا على زائر سأله في بداية شهر يوليو (تموز) 2015 عن اشياء محببة الى نفسه يمكن أن يحملها معه الى جزيرة معزولة، قال شيراك بإنه يحبذ أن يأخذ معه تحفًا من هنود الامازون، ومن افريقيا الجنوبية. وإذا ما سمح له بذلك فإنه سيحمل معه ايضًا مذكرات الجنرال ديغول. ألم يقل اندريه مالرو بأن حقيقة الانسان تكمن في ما يخفيه!