حاورت "إيلاف" الروائي والناقد السعودي معجب الزهراني، فتناول الحوار مسائل الثقافة والمجتمع وحقوق المرأة والرواية. ربما كان صادمًا في قوله إن المجتمعات في الجزيرة العربية مجتمعات عتيقة، لكنه ربما يصدم أكثر في تناوله حقوق المرأة ووضع المثقف العربي. 

إيلاف من الرياض: ليس الحوار مع القاص والناقد السعودي الدكتور معجب الزهراني نزهةً على طيبه، إنما قفز فوق الحواجز المعرفية. وليس حشره في زاوية الحديث بالأمر السهل، خصوصًا أنه التنويري المتفلت من قيود التقليد، الذي أنتج رواية واحدة إلى الآن، فسمّاها "رقص"، في مجتمع يرى في الكلام عن الرقص، لا الرقص ذاته، خطيئة وكفرًا.

في حديث الزهراني لـ "إيلاف"، وصف المجتمع السعودي بالعتيق، محذرًا من الذهنية الدوغمائية الصلبة، "لأنها سهلة التشكل والإنتشار في مجتمعاتنا التقليدية العربية، خصوصًا في مجتمعات الجزيرة العربية التي أسميها مجتمعات عتيقة، التي لم تتغيّر ثقافاتها بشكل جدي منذ قرون طويلة".

وينادي الزهراني بحقوق المرأة، فيقول: "لا حق لأحد بمنع فتاة تريد دراسة الطب هنا أو في الخارج، والمرأة التي تعودت لبس النقاب فلتتنقب، ومن لم تتعوّد كما في حواضر الحجاز وأرياف الجنوب فلا تُعاقب أو تحقر. والشابة التي تقرر الزواج من شاب تقتنع بخلقه ودينه لا تُمنع أو تطلق منه بحجة تكافؤ النسب الجاهلية... وهكذا".

وبحسبه، المثقف العربي مزيج من شخصيات مختلفة: الأديب البليغ والفقيه الرسالي والمثقف العضوي أو النقدي الحديث، "فكلنا تربينا في بيئات ومجتمعات تقليدية بسيطة، وتعلمنا ما يجعلنا نحاول المشاركة في تحسين شروط عملها وحياته، خصوصًا مع نشوء الدولة الوطنية وتنوع مؤسساتها الحديثة التي أصبحت فضاء عملنا وعنوان انتماءاتنا".

وفي ما يأتي متن الحوار:

غادرنا أخيرًا الكاتب الصحفي والمؤلف الدرامي الدكتور عبدالرحمن الوابلي، فلاحظنا شماتة وتشفيًا من بعض المتشددين. إلى ماذا تعزو هذا البعد عن الإنسانية؟

أترحم على الدكتور عبدالرحمن الوابلي وأنوه بجهده الكبير الذي بذله في كتاباته الصحفية والدرامية. فهو وغيره من الكتّاب الشجعان أخلاقيًا وفكريًا قاوموا ويقاومون ما سميته "فكر التوحش في المجتمع"، وأعني به كل فكر يبرر العنف والعدوان على عباد الله الآخرين المختلفين عنه بأي ذريعة كانت.

أما عن شماتة البعض فمحزن أن تتشوه السوية في أي فرد منا. من بسيط أخلاق البشر عمومًا، العرب والمسلمين خصوصًا، أن يدعى للإنسان بالرحمة ولأهله بالصبر والأجر في مثل هذا المقام لا غير. وبصيغة أخرى أقول إن التشفي بالموت ليس دليل خير في إنسان يزعم أن الدين خلقه، ولا يسرني أن أتوقف عند هذا التشفي كثيرًا لأنني توقعته للأسف الشديد!

 

الزهراني: الحقوق اليومية الصغيرة أهم عندي من غيرها

 

مجتمعات عتيقة

قلت إن المجتمعات التي تُعلِّم الحقائق وتتجاهل المعرفة مجتمعات معتلة. هل يمكن تطبيق هذه المقولة على مجتمعنا؟

نعيش في عصر ما يسمى بالثورات المعرفية والتقنية، وهذه اللحظة التاريخية والتحولات التي يعرفها ويشارك فيها العالم كله هي التي تجعل المعلومات والأفكار والنظريات تتكاثر وتتغير أو تتجدد في كل يوم. المقصد من هذه العبارة أن شحن الأجيال – من الطفولة المبكرة إلى الجامعة - بحقائق وهمية نستقيها من ثقافاتنا التقليدية خطر أحذر منه. فلو أخذت مثلًا مفاهيم الإنسان، السماء، الأرض، الحياة..، تكمن مرجعياتها في العلم الحديث والفكر الذي ينتج عنه بالضرورة. أما أن تأتي بمعارف تقليدية من أي ثقافة في العالم ثم تفرضها على النشء فهنا يحصل اللبس عند الأجيال الشابة. حين يدخل الطفل إلى المدرسة ويتجه التعليم إلى تلقينه أفكارًا وآراء معينة وتحويلها إلى حقائق صلبة جامدة، يصل إلى الثانوية والجامعة وعند نزعة مقاومة المعرفة خوفًا على انهيار هذه الحقائق الوهمية التي عرفها وسلم. فالثقافات التقليدية تقدم حقائق مطلقة انتجها أسلاف كلهم حكمة ودراية وعظمة، أما الثقافة الحديثة فتقدم أفكارًا جديدة تعود الإنسان على نوع من مرونة الذهن فيستطيع أن يكتسب معارف وحقائق جديدة، فيتشكل لديه ما يسمى بالذهنية النسبية والرؤية النقدية التي تعينه على مواصلة التعلم والعمل والإبداع في كل مجال.

وهل هذا يحصل في مجتمعاتنا؟

للأسف ما يحدث في مجتمعاتنا العربية هو تلقين الحقائق المطلقة، وبالتالي ينتج جيل لايعرف الكثير ولا يعرف أنه لا يعرف، بل يتوهم ويصدق أنه أفضل من الشاب أوالأوروبي أو الأميركي. وعندما نقارن ونحكم سنجد بونًا شاسعًا بين العقليتين سببه التعليم في المقام الأول. فنحن بين شخص تعلم في مدارس حديثة تعوده على حب المعرفة والقدرة على الإكتشاف والإبداع، وآخر شُحن أيديولوجيًا بأفكار ومعارف سردية أو حكائية لا تصمد أمام العصر وعلومه. وحتى حين ندرس العلوم الشرعية نلقنها كحقائق مطلقة، ولا نقول إنها آراء واجتهادات فقهاء، لها ما يوافقها أو يعارضها، والاجتهاد والتجديد ممكن ومطلوب دائمًا. النتيجة مفارقة كبرى حيث الطفل لدينا يمكن أن يُفتي للمعلم أو المعلمة أن كشف الوجه حرام، والموسيقى والغناء حرام، ومخالطة بعض الفئات حرام، وهكذا !. نحذر من هذه الذهنية الدوغمائية الصلبة، لأنها سهلة التشكل والإنتشار في مجتمعاتنا التقليدية العربية، خصوصًا في مجتمعات الجزيرة العربية التي أسميها " مجتمعات عتيقة "، التي لم تتغير ثقافاتها بشكل جدي منذ قرون طويلة!

ماذا تعني بالمجتمعات العتيقة ؟

أعني بها بعض المجتمعات التي تطورت في فترة مبكرة من التاريخ من خلال الانتقال إلى مرحلة الرعي والزراعة البسيطة، ثم توقفت فلم يتغيّر أو يتطور فكرها ولا طرائق عملها ولا رؤيتها للعالم والكون في ما بعد. لا غرابة إذًا أن تجد مجتمعنا العتيق مُيسر لتقبل الأوهام والضلالات المعرفية التي ربما تسبب مشكلات حادة للفرد والمجتمع، وما التعامل المتوجس أو الاحتقاري مع باقي البشر في عالم اليوم أو التعامل الفظ الظالم مع المرأة في وجه من وجوهه سوى مثال واضح على ما نقول. 

لا تمنعوها

كتبت دائمًا أن المرأة لم تأخذ حقها في المجتمع، لكن تجد من يقول إن المرأة أخذت حقوقًا كثيرة: دخلت مجلس الشورى، وفي إمكانها اليوم الترشح في المجالس البلدية... مارأيك؟

ما أتمناه فقط هو شيء واحد: أن يسمح للمرأة بأن تكون كما تريد، ضمن منظومات قيمنا وأخلاقنا المحافظة التي ظلت حية معتبرة إلى وقت قريب. خذ أمثلة محددة ولك الحكم: فلا حق لأحد بمنع فتاة تريد دراسة الطب هنا أو في الخارج، والمرأة التي تعودت لبس النقاب فلتتنقب، ومن لم تتعوّد كما في حواضر الحجاز وأرياف الجنوب فلا تعاقب أو تحقر. والشابة التي تقرر الزواج من شاب تقتنع بخلقه ودينه لا تُمنع أو تطلق منه بحجة تكافؤ النسب الجاهلية... وهكذا. فالحقوق اليومية الصغيرة أهم عندي من غيرها. أن تقود المرأة سيارتها بنفسها أهم من دخولها مجلس الشورى أو المجلس البلدي، لأن هذا الحق البسيط تترتب عنه أشياء كثيرة جدًا تعزز كرامتها وتريح المجتمع من ظواهر سلبية يعرفها الجميع. وباختصار، أقول إن الظلم الذي يقع اليوم على المرأة في مجتمعنا لا يليق بها ولا بنا، ولا ينبغي لعاقل أن يبرره سواء باسم الدين وباسم الأخلاق الفاضلة، فضلًا عن كونه أصبح موضوعًا للتندر أو للإدانة من كثيرين.

المثقف والشخصية المعقدة

ثمة من يرى أنه على المثقف أداء دور تنويري في المجتمع، وآخرون كالدكتور توفيق السيف يرون أن الثقافة حرفة، وليس على المثقف واجب أكثر من غيره من المواطنين. فما رأيك؟

في هذا الموضوع، تختلف الأطروحات من عصر إلى آخر. ولد مفهوم "المثقف" في أوروبا في عصر التنوير في القرن الثامن عشر، ليسمي فئة جديدة من النخب المعرفية التي تحاول بث مجموعة جديدة من الأفكار والقيم والمعاني التي تساعد الإنسان على التقدم وتقبل المكتشفات والقوانين الجديدة، مارسها كثير من المفكرين المشهورين قبيل الثورة الفرنسية وبعدها.

في فترة لاحقة، تشكل ما يسمى بالمثقف العضوي في الأدبيات الماركسية، وهو أنموذج يظن أن من واجباته النزول إلى الفضاء العام ومباشرة نشاط عملي يومي يشارك من خلاله في تغيير الوضع القائم لتحقيق المزيد من شروط الكرامة والحرية والعدالة والمساواة. وفي فترة قريبة، أصبح لدينا أنموذج ثالث يسميه نعوم شومسكي وادوارد سعيد المثقف النقدي الذي يمارس نوعًا من أنواع البحث عن الحقيقة ونقد الخطابات السلطوية السائدة، فيخدم المجتمع والإنسان من دون تفويض من أحد. فالهدف هنا كشف الحقيقة المسكوت عنها أو المقموعة.

هناك تيار جديد، يبدو أنه نتيجة أطروحات أميركية، يرى أن المثقف ليس سوى عامل معرفة لا يميزه من الآخرين سوى مهاراته ومجال عمله، ولعل هذا ما يرمي إليه صديقنا توفيق السيف، ويجد هذا المعنى هوى لدى صديقنا الغذامي الذي يرفض نعت أو لقب مثقف، بل أن الكاتب المرح أحمد العرفج يتخذ من هذا المفهوم تسمية شخصية له. 

هل ينسحب هذا على المثقف العربي؟

في اعتقادي الخاص، المثقف العربي اليوم مزيج من شخصية الأديب البليغ، والفقيه الرسالي، والمثقف العضوي أو النقدي الحديث، ولا عجب في ذلك... فكلنا تربينا في بيئات ومجتمعات تقليدية بسيطة، وتعلمنا ما يجعلنا نحاول المشاركة في تحسين شروط عملها وحياته، خصوصًا مع نشوء الدولة الوطنية وتنوع مؤسساتها الحديثة التي أصبحت فضاء عملنا وعنوان انتماءاتنا. أتفق تمامًا مع المفكر عبدالله العروي حين يقول إن الوعي المميز للمثقف العربي والعالم ثالثي هو الوعي التراجيدي أو المأساوي. لماذا؟ لأن ما أن نخوض تجربة التعليم والتعلم ندرك أول ما ندرك سلسلة طويلة من المشكلات التي يطرحها واقعنا ذاته، وبعضها من الحدة بحيث يمكنها أن تهدد وجودنا الحياتي والحضاري - كالتخلف العلمي / التقاني، والحروب البينية المتصلة، وشح الموارد الطبيعية في بيئات صحراوية في غالبيتها.

هل فشل المثقف العربي؟

هناك قضية أخرى تتصل بهذه المسألة، أعني بها إحساس المثقف العربي اليوم بالفشل والعجز مقارنة بما شاع في فترة ماضية. كان المثقفون من جيل طه حسين وحمد الجاسر والسباعي والجهيمان يعتقدون أنهم رواد التحضر والتقدم ورموزه. وفي مراحل لاحقة، اكتشفنا جميعًا أن تأثيرهم كان محدودا جدًا. لماذا؟ لأن فشل مشروعات النهضة وارتباك مشروعات التنمية جعلا أنموذج المثقف التقليدي الأصلي، "الفقيه" أو "الداعية" يعود ويمارس التأثير الأكبر في مجتمعات تعاني أزمات يتناسل بعضها من بعض. فهذا الأنموذج لا يختلف كثيرًا عن شاعر القبيلة الذي عادة ما يمتدح الذات وأسلافها العظام ويهجو الآخرين، بينما المثقف الحقيقي كالطبيب الذي لا يتورع عن تسمية المعضلات والأمراض بأسمائها الحقيقية، ويقترح علاجات مرة ربما تسبب ألمًا كبيرًا في النفس والبدن، لكنها ضرورية للتعافي، كما قلت من قبل. وأيا كان الأمر، علينا أن نصر على الفعل ونواصل الأمل المقرون بالعمل، ولك أن تتخيل وضع الثقافة في المملكة العربية السعودية من دون محمد حسن عواد، أحمد السباعي، حمد الجاسر، عبدالكريم الجهيمان، غازي القصيبي، عبدالله الغذامي وأمثالهم العشرات، بل المئات، من كل فترة ومنطقة.

الرواية والخطاب السعودي

لك مقولة وهي "أن الرواية أصدق خطاب في المجتمع السعودي الحديث، وما عداها يعد خطابات مزيفة ومزورة " الأ يعد ذلك رأيًا متطرفًا تجاه العديد من الفنون والآداب؟

حين نقرأ منجزات كتاب الجيل الأخير في الرواية نصدم مما نجده من جرأة في الطرح وصرامة في النقد وصراحة في التسمية والتعرية، وكأن الرواية تكفلت بإعادة الاعتبار لكل ما نهمله أو نقمعه في حياتنا اليومية. إنها فعلًا خطابٌ جديد يعودنا على التحديق في مرايا متشظية، لم يعوّدنا مجتمعنا الكتوم المحافظ على سماعها، فضلًا عن كتابتها وقراءتها، لأنه فضّل دائمًا حكمة الصمت وحماقة الكبت. ثم أن الرواية بمعناها الحديث خطاب حواري متعدد الأصوات والنماذج، تبدأ حكاياتها من الفرد - الإنسان وإليه تعود. وحين أقول أصدق خطاب ثقافي لدينا فلا أعني أنها الأجدى أو الأجمل، بقدر ما أعني أن هذا النمط من الكتابة هو الأقدر على التحرر من رقابات كثيرة، ولذا قد يُصدم قارئ وناقد ومثقف من جيل سابق، مثلي.

ربما انطوى قولي إن الخطابات الأخرى مزيفة أو غير صادقة على بعض القسوة في الحكم. لكن القصد أن الخطابات الأخرى تتوخى الحذر فلا تسمى الأشياء بأسمائها، وتحاول أن تأوّل الظواهر أكثر مما تصفها وتحللها، ولهذا لا يعول كثيرون منا عليها. الآن تغيّر الوضع بشكل شبه جذري لحسن حظ الجميع. فوسائل التواصل الإجتماعي تجاوزت الرواية وكل خطاب رسمي، فأصبحنا كمن يستحم في حمام زجاجي في ساحة عامة كما يقول صديقنا الغذامي. نعم، كثيرًا ما نستحم بملابسنا وأقنعتنا كي لا نتورط في مساءلات قانونية، لكن مواقع التواصل الإجتماعي هي التي تعطينا اليوم، ولحظة بلحظة، صورة واقعية حية عن كل ما يحدث في مجتمعنا والعالم من حولنا. 

إذًا، لماذا لم نقرأ لك إلا رواية "رقص"؟

الحق أنني لم أكن أفكر أصلًا في أن أصبح روائيًا محترفًا. بمصادفة بسيطة تم استدعائي أستاذًا زائرًا في جامعة السوربون في باريس في عام 2008. لم تكن لديّ خطة لكتابة الرواية، وما أن سكنت في شقة صغيرة مطلة على نهر السين حتى جاءتني فكرة المغامرة وبدأت أعمل على هذه الرواية تحديدًا. لا أقول إنها ولدت من فراغ، لأن حكاياتها الرئيسة مخزونة في ذهني ومخيلتي منذ الشهادة المتوسطة، وحين قررت أن أغامر وأجرب وجدت نفسي أدون جزءًا من ذاتي الحميمة في شكل روائي أتاح لي فرصة كبرى للركض الممتع وراء التخيلات والهذيانات والتأملات الغريبة، حتى أكاد أستغرب من أنني كتبت هذا. ولأن التجربة بدت لي فاتنة فأرجو أن لا تكون الرقصة الأولى والأخيرة.