ينتحر 10 آلاف ألماني سنوياً بحسب أرقام دائرة الإحصاء المركزية، وهذا رقم كبير ما انفك يزداد سنة بعد سنة، لكن الغريب فيه هو أن عدد المنتحرين تحت عجلات القطارات أكبر من عدد ضحايا حوادث الطرق، وأكبر من عدد ضحايا جرائم القتل، وأكبر من عدد ضحايا تعاطي المخدرات.

إيلاف&من برلين: لا يشك أحد بأن الراغب بالانتحار يصل درجة من اليأس والتشوش تدفعه للخلاص من الحياة، لكنه بالطبع لا يفكر كم سيخلف من آثار على الآخرين، وخصوصاً حينما يرمي نفسه أمام عجلات القطارات السريعة.

وتشكو مديرية السكك الحديدية الألمانية من معاناة شديدة لسائقي القطارات، الذين يشهدون عمليات الانتحار تحت عجلات قطاراتهم، وتمتد اضطراباتهم النفسية بين الاكتئاب والصدمة النفسية وصولاً إلى انتحار بعضهم.

&والمشكلة الأخرى أن حالات الانتحار تحت عجلات القطارات تسبب حالات كثيرة من الاستقالة من العمل، ويميل ربع سائقي القطارات إلى ترك العمل بعد مشاهدة الجثث المفرومة تحت القطارات.&

قبل أيام، وفي حفل خاص، افتتح روديغر غروبه، مدير السكك، انطلاقة الجيل الرابع من القطارات الألمانية السريعة"آيس4". وهو جيل يسير بسرعة 300 كم كمعدل، وينتظر أن يقطع الخط الجديد بين ميونخ وبرلين مسافة 900 كم خلال 4 ساعات (مع التوقفات).

واستغل غروبه المناسبة لكشف ما كان"محظوراً" الحديث عنه في مديرية السكك عن حالات الانتحار تحت عجالات القطارات.

وقال غروبه إنه صار يؤمن بأن الكشف عن الأرقام قد يقلل من حالات الانتحار، ويدفع المنتحرين إلى"الرحمة" بسائقي القطارات الذين يعانون كثيراً من هذه الظاهرة. وهذا يعني انه يقف بالضد مما يسمى" تأثير فارتر" عن العلاقة الطردية بين التقارير الصحافية عن الانتحار وزيادة عدد حالات الانتحار. ويعود تأثير فارتر في الطب إلى رواية "آلام فارتر" التي كتبها الكاتب الألماني العظيم غوته.

28 انتحاراً تحت القطارات في يوم واحد

وذكر غروبه ان ألمانيا تشهد انتحار 11 &شخصاً كل يوم في محطات القطارات والمترو وخارجها. وصارت هذه الظاهرة تتزايد منذ انتحار حامي هدف المنتخب الألماني روبرت انكه في العام 2009. وسجلت مديرية السكك أعلى نسبة من الانتحارات تحت عجلات القطارات في نوفمبر الماضي، حينما قرر 28 ألمانياً انهاء حياتهم بهذه الطريقة البشعة.

وكان انكه، الذي يعاني سراً من الاكتئاب والاضطرابات النفسية، قفز امام القطار السريع في 10 نوفمبر 2009 بالقرب من مسكنه في بلدة امبيدة، القريبة من هانوفر.&

قبل الكشف عن المحظور من قبل غروبه، كانت دائرة الإحصاء تتحدث عن 781 حالة انتحار على السكك الحديدية سنوياً، ويبدو أن عليها الآن أن تصحح إحصائياتها. وتحدث غروبه الآن عن حالات انتحار مماثلة قد ترتفع إلى 4000 في السنة.&

وحاول المتحدث الصحافي باسم السكك الحديدية التخفيف من هول الأرقام التي ذكرها غروبه، مشيراً إلى احتمال أن المدير ضمّن الرقم عدد "محاولات الانتحار" الفاشلة. لكنه اعترف أيضاً بأن تأثير محاولات الانتحار الفاشلة على سائقي القطارات لا يقل كثيراً عن تأثير المحاولات الناجحة.

كيلومتر إلى أن يتوقف القطار السريع تماماً

انتحر في العام 2012 تحت عجلات القطارات 481 رجلاً و199 امرأة بحسب مصادر دائرة الاحصاء المركزية، وتحدثت مديرية السكك حينها عن عدد أكبر، لكنها لم تتحدث بالأرقام. وهذا يكشف أن نسبة المنتحرين من الرجال تعادل أكثر من ضعف عدد المنتحرات، ويشي بتفضيل الجنسين لإنهاء حياتهما على السكك.

كريستيان غرافيرت، الطبيب المتخصص في مديرية السكك، تحدث عن 30 ثانية تفصل بين مشاهدة سائق القطار لشخص يرمي نفسه بين العجلات، وبين قدرته على سحب الفرامل وايقاف القطار. وهذا يعني قطع مسافة كيلومتر قبل توقف القطار بالكامل، يقع بعدها على السائق الاتصال بالشرطة والاسعاف ومشاهدة الاشلاء.

الأخطر من ذلك هو أن سائق القطار يشاهد، في معظم الحالات، عيني المنتحر لجزء من الثانية، لكن هذا الجزء من الثانية، تضاف إليه الثلاثون ثانية التي يتطلبها وقف القطار، كافية لإصابة السائق بصدمة سترافقه مدى الحياة. وهناك سائقو قطارات شهدوا عملية انتحار واحدة خلال فترة خدمتهم، لكن الرقم يزداد، وهناك سائق قطار شهد 12 انتحاراً تحت عجلات القطارات التي كان يقودها.

صدمة نفسية وعجز عن العمل

يصاب 33% من سائقي القطارات الذين يشهدون حالات الانتحار على السكك بصدمة نفسية تستمر بشكل مختلف معهم، ولكنها تصيبهم بالعجز عن قيادة القطار لعدة أسابيع. وتلجأ المديرية في الحال لإعطائهم إجازة من العمل وأرسالهم إلى الطبيب النفسي. إذ تنتاب السائق جملة من المشاعر التي تمتد بين الفزع والشعور بالعجز، والشعور بالذنب، ناهيكم عن صدمة مشاهدة الجثث. وتترافق هذه الحالات، في كثير من الأحيان، بارتفاع حرارة الجسم وضغط الدم والتعرق والارتعاش.

ويشاهد سائق القطار خلال فترة اجازته الكثير من الكوابيس، ويتكرر مشهد الانتحار في دماغه كلما يواجه موقفاً صعباً. والأنكى من ذلك هو أن بعضهم يشعر بأنه تسبب بموت إنسان بشكل غير مباشر، ومثل هؤلاء قد يتركون العمل أو ينتقلون إلى نوع عمل آخر في دائرة السكك. وتضع الدائرة الصحية في السكك برامج لإعادة تأهيل سائقي القطار المصدومين بالانتحارات على السكك، وتنجح هذه البرامج النفسية في إعادة 10% من الصدومين إلى العمل كسائقي قطارات.