تقول الحكاية التي راجت على الألسنة مؤخرا في أربيل والسليمانية، إن قاسم سليماني، قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، قال لزعماء أكراد عندما التقاهم في السليمانية "لو تمسكتم بموقفكم سوف نجعلكم تعودون للجبال".

كثيرون يتمسكون بصدق الرواية وآخرون ينفونها تماما، لكن المؤكد الآن أن كردستان العراق و منذ عام الفين وثلاثة لم تعد تلك المناطق الجبلية التي ينشط فيها مقاتلو البيشمركة في عمليات الكر والفر التي انخرطوا فيها مع الجيش العراقي لعقود وفي ظل أنظمة حكم عراقية مختلفة.

تبدلت الأحوال، فأربيل الجديدة بأبراجها الشاهقة باتت أشبه في عمرانها وشوارعها بمدن الخليج وليس بأربيل القديمة بأسواقها وقلعتها، والسليمانية التي تضم مستشفيات وبنوك على أحدث طراز، لم تعد مدينة جبلية معزولة.

هكذا تبدو صورة المحاربين في الجبال، التي لوح بها بعض الزعماء الأكراد في اجتماعاتهم الخاصة عندما رفضوا إنذارات بغداد ودول الجوار، أقرب إلى "الحلم الثوري" من الحقيقة التي يمكن تفعيلها.

يحدثني "علي" وهو نادل مقهى قدم من حي الكفاح في بغداد للعمل في السليمانية منذ عام 2007 "كيف يعودون للجبال ويتركون البيوت والسيارات الفارهة؟ كل من يعملون معي هنا قادمون من بغداد وسوريا وبنغلادش ونيبال".

والواقع أن الحكم الذاتي الكردي، ورغم المديونية الهائلة على حكومة أربيل (20 مليار دولار)، قد خلق نمطا اقتصاديا تتوارى فيه الديمقراطية مع تقدم ريع النفط الذي يؤلف القلوب ويقدم الخدمات.

لكن لهذا النمط عيوبه أيضا. فتجربة كردستان رغم حداثتها مع مؤسسات الدولة تتشابه إلى حد كبير مع العراق عموما، من حيث معدلات الفساد وتركز السلطة في ايدي عائلات وجماعات تقليلدية، أضف إلى ذلك سيطرة الأجهزة الأمنية والغموض المحيط بالعوائد الحكومية للنفط والجمارك، دون وجود اجهزة رقابية فعالة.

"أزمة سلطة"

كان أكراد العراق، وحتى استفتاء الخامس والعشرين من سبتمبر أيلول الماضي، رغم كل ذلك، قاب قوسين أو أدنى من شكل الدولة ووظائفها.

قال لي زعيم كردي متحسرا على ما آل اليه الوضع "كنا قد تجاوزنا حتى مفهوم الفيدرالية، وأصبح لدينا مطاراتنا الدولية ومعابرنا الحدودية وأجهزتنا الأمنية".

كردستان
BBC
قوات الجيش العراقي والحشد الشعبي في شوارع كركوك

وتتعدد الروايات في تفسير موقف رئيس الاقليم مسعود بارزاني في قرار الاستفتاء، فالبعض يرجعه الى رغبته في وضع المطلب الكردي على الطاولة قبل انتهاء الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية وانتفاء الحاجة الى جهود قواته. واخرون يرون أنه كان قفزة للأمام من المأزق الذي باتت تعانيه سلطته وحزبه (الديمقراطي الكردستاني).

فبارزاني، الذي انتخب لفترتين متتاليتين منذ 2003، تم التجديد له لسنتين في عام الفين وخمسة عشر، ثم جُدد التجديد مرة أخرى بعدما افتى مجلس الشورى (أعلى هيئة قضائية) بعدم جواز شغور منصب الرئاسة وتأكيد مفوضية الانتخابات في 2015 عدم قدرتها على الدعوة الى انتخابات.

وتفاقمت ازمة التجربة الكردية بانقسام الحزبين الرئيسيين ومعهما الحزب الإسلامي بعد الدعوة لانتخابات لبرلمان كان معطلا معظم الوقت عن اداء مهامه.

ينفي البروفيسور جوتيار عادل استاذ العلوم السياسية المقيم في اربيل، هذه الفرضيات، مشيرا إلى أن الأحزاب الرئيسية قد وافقت على الاستفتاء في عام 2015 عندما طرح الموضوع لأول مرة. فلماذا تبدلت مواقفهم إذن؟

تداعيات الاستفتاء، الذي ايدته اغلبية المقترعين، لم تظهر جلية إلا عندما بدأت بغداد ودول الجوار في اتخاذ خطوات تصعيدية نحو أربيل. قبل ذلك كانت كل القوى السياسية بما فيها حركة التغيير "كوران" والاتحاد الوطني الكردستاني قد عدلت مواقفها في اللحظات الأخيرة وانضمت لركب المؤيدين حتى بالرغم من إجراء الاستفتاء في المناطق المتنناع عليها وما كان متوقعا لذلك من تعقيدات.

لكن بافل طالباني، احد قادة الاتحاد الوطني، المنافس الرئيسي لحزب بارزاني، يقدم رواية أخرى في مقابلة مع بي بي سي عن محادثات الغرف المغلقة: "قلنا للرئيس بارزاني إن التحدي كبير ولن يقبله أصدقاؤنا لكنه لم يستمع الا لنصائح مقربيه".

ومع دخول القوات العراقية إلى المناطق المتنازع عليها، وفي مقدمتها كركوك، وانسحاب البيشمركة منها خرج ما دار في الغرف المغلقة إلى العلن. وتوالت الدعوات الى البارزاني بالاستقالة وإعلان تحمله "الكارثة التي حلت بالكيان الكردي الوليد".

فهل كان بارزاني هو الخاسر الوحيد من قراره ورد فعل بغداد ودول الجوار؟ المؤكد لا. فقد أدى ما حدث إلى تشظي مواقف القوى الكردية وانقسامها على نفسها. مثال ذلك هو الاتحاد الوطني، الذي بات منقسما بين أعضاء جناح طالباني، المتهمين بالوقوف وراء اصدار قرار الانسحاب من كركوك، والمتشددين الذين يؤيدون كوسرت رسول، احد قادة الحزب ونائب بارزاني الذي صدرت بحقه مذكرة اعتقال من بغداد.

كما أن الحزب الديمقراطي، ورغم أنه يبدو الأكثر تماسكا حتى اللحظة، بات يتنازعه تياران، الأول يمثله مسرور بارزاني، نجل مسعود والمسؤول عن الملفات الأمنية والاستخباراتية، ونيجرفان بارزاني، ابن شقيق مسعود، الذي يتولى رئاسة الحكومة ويمثل صوت الاعتدال للتفاوض مع بغداد.

تراث الماضي

يحدد جوتيار عادل "جينات الانقسام" في سياسة أكراد العراق بأنها تاريخية وليس من المتوقع تجاوزها قريبا. "مع كل أزمة يواجهها أكراد العراق، تزداد احزابهم انقساما بدلا من أن تتوحد". ولأن هذه الأحزاب ارتبطت بشخصيات كاريزمية مثل طالباني وبارزاني، اصبح نموها أقرب الى التركيبة العشائرية وليس الى تراث القاعدة الديمقراطية.

لمست هذا الانقسام جليا في كركوك، أحد معاقل الاتحاد الوطني. فمن بقي فيها يشيد بقرار الانسحاب تأييدا لموقف الاتحاد الوطني لأنه جنب المدينة والبيشمركة خسائر كبيرة، ومن خرجوا منها يؤيدون موقف الحزب الديمقراطي ويعتبرون قرار الانسحاب "خيانة".

كردستان
BBC
نازحون من كركوك احتموا بأحد المساجد في قضاء جمجمال

حتى في مؤسسات الإقليم يتمثل هذا الانقسام بوضوح. فتركيبة الحكم ومسؤوليات البيشمركة والمناصب الأمنية تنتمي لعائلة حاكمة، وفي السليمانية نفس الشيء، الامر الذي يعزز المخاوف من قيام اقليمين كرديين بإدارتين مختلفتين إذا تعزز الانقسام الراهن. لكن استاذ العلوم السياسية يرى ان هذه التركيبة هي الأكثر انسجاما مع طبيعة المجتمع الكردي.

غير أن جولة في شوارع أربيل والسليمانية تشير إلى ان المجتمع الكردي تغير كثيرا. وكبقية مجتمعات الشرق الأوسط ،باتت اغلبيته تنتمي الى الجيل الاصغر الذي حدد اختياراته وطموحاته في عصر العولمة والسماوات المفتوحة، وقد يهمه حلم الرفاه أكثر من تراث الماضي الذي يحدثه عنه الأباء المقاتلون.

سألت بافل طالباني، الذي لا يشغل منصبا رسميا في حزبه، رغم دوره المؤثر في سياساته: هل سينتهي عصر التوريث لدى أكراد العراق قريبا؟ قال" لا أتوقع أن يحدث ذلك قريبا، فكثيرون يرتاحون لهذه الصيغة التي تضمن الأمن والاستقرار".

لكن الأزمة الراهنة وحالة التشظي التي يعيشها التجمع السياسي في كردستان العراق ربما تثبت أن الاستقرار قد يكون صعب المنال الآن من دون تقديم الأكراد لتنازلات ضخمة للحكومة المركزية في بغداد، وهو ما انعكس في البيان الذي نشرته حكومة الاقليم أخيرا وأبدت فيه استعدادها لتعليق نتائج الاستفتاء والحوار مع بغداد.

وعلى الرغم من أن مثل هذه المبادرة قد تؤدي إلى نزع فتيل الأزمة مع بغداد، عسكرياً على الأقل. إلا أن الثابت أن الأكرد الذين احتفلوا الشهر الماضي بولادة دولتهم القومية قد أصبحوا الآن في عداد الخاسرين إذا ما قورن موقفهم اليوم بموقفهم قبل الاستفتاء.

سيكون من المثير للاهتمام متابعة المسار الذي ستتخذه الأمور في الأيام والأسابيع القادمة على صعيد علاقات الاقليم مع بغداد من جهة والمشهد السياسي داخل الاقليم نفسه من جهة أخرى.

وفيما ستتواصل التكهنات حول الأسباب الحقيقية التي دفعت بارزاني إلى الدعوة إلى الاستفتاء فإن ما حدث منذ الخامس والعشرين من سبتمبر/ أيلول الماضي يطرح تساولات أعمق عما إذا كان توافر عوامل الثقافة واللغة والتاريخ المشترك وغيرها من عوامل النزعة القومية كافية لاعلان قيام الدول أم أن كل هذه العوامل مجتمعة لن تستطيع الصمود أمام الحسابات السياسية والاقتصادية محلية كانت أم إقليمية.

من المؤكد أن الإجابة على مثل هذه التساؤلات ستكون موضع اهتمام يتجاوز إقليم كردستان العراق إلى (جيرانهم في سوريا) الذين قد تبدو الظروف مواتية لهم للاقدام على خطوة مماثلة في المستقبل القريب.