«إيلاف» من موسكو:&منذ جاء الرئيس الكازاخستاني&نور سلطان نزاربايف إلى قمة السلطة في بلاده مع بداية النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي وهو لا يكفّ عن إطلاق "مبادراته" التي يحاول من خلالها إعادة رسم الكثير من ملامح التطور في بلاده وما جاورها من بلدان الاتحاد السوفياتي السابق.

ها هو يواصل "ثورته" التي سبق أن أعلنها على الكثير من مخلفات الماضي وإرث سنوات طوال عاشتها بلاده في كنف آخرين من وافدي الجوار، وذلك بقراره الأخير بشأن التحول إلى الأبجدية اللاتينية بدلًا من الكيريلية (السلافية الروسية) التي كانت كازاخستان استبدلتها بالأبجدية العربية، بعد فترة وجيزة لم تستمر طويلًا في ثلاثينيات القرن الماضي من استخدامها اللاتينية.

وراء الأكمة

ينص المرسوم الصادر في هذا الشأن على ضرورة تكثيف الجهود الرامية إلى سرعة الانتهاء من الإعداد لتطبيق عملية التحول إلى الأبجدية اللاتينية اعتبارًا من عام 2025، بهدف توفير الأجواء اللازمة لتحقيق التطور العلمي التقني للبلاد إلى جانب تيسير التعامل والاتصالات مع العالم الخارجي، في إطار برنامج متكامل يتضمن التركيز على التوسع في تعليم اللغات الأجنبية.

أصدر نزاربايف تعليماته إلى حكومته بالبدء اعتبارًا من عام 2018 في تدريب المتخصصين والخبراء المؤهلين لوضع الكتب المدرسية للفترة المقبلة في ضوء ما اتخذه من قرارات في هذا الشأن. وعلى الرغم من أن نزاربايف كان أعلن عن فكرة التحول إلى الأبجدية اللاتينية منذ فترة طويلة، رغبة منه في أن يجعلها بداية انطلاقة بلاده صوب اللحاق بعالم الغرب وإنجازاته التقنية العصرية.

واستنادًا إلى ما تزخر به أراضي كازاخستان من ثروات هائلة من النفط والغاز والمعادن، فإن ما يحتدم اليوم من جدل حول هذا القرار في الاوساط السياسية والثقافية يقول إن "وراء الأكمة ما وراءها"، ولا سيما بعدما أفصح الكثيرون عن مخاوفهم من احتمالات النيل من ارتباطات كازاخستان، وهي التي كانت ولا تزال أهم دعائم الاتحاد الأورو-آسيوي، الذي يضم روسيا ومعظم بلدان الاتحاد السوفياتي السابق.

لذا، ترامت أصداء القرار عالية بين جنبات الفضاء السوفياتي السابق، في الوقت الذي يعتبره الكثيرون من المراقبين في روسيا وخارجها تهديدًا لمستقبل اللغة الروسية، وهي التي طالما كانت الأداة الرئيسية التي اعتمدتها موسكو لنشر ثقافات الامبراطورية المتعددة القوميات، والمترامية الأطراف على مدى قرون طويلة.

تضر بالعلاقات

هناك أيضًا من الشواهد ما يقول إن قرار نزاربايف حول الطلاق مع الكيريلية أو السيريلية، وهي الأبجدية السلافية التي وضعها الراهبان الشقيقان عالما اللغة كيريل وميفودي في سنة&863 ميلادية بهدف ترجمة الأسفار المقدسة إلى لغات روسيا ومنطقة شرق أوروبا تلبية لتعليمات الإمبراطور البيزنطي ميخائيل الثالث، لا بد من أن ينعكس لاحقًا على علاقات بلاده مع الجمهوريات "الشقيقة" إنطلاقًا من أن هذه الأبجدية هي "الأساس المشترك" لكل اللغات الروسية والبيلاروسية والأوكرانية والبلغارية والصربية والمقدونية، فضلًا عن أنها تبقى الأبجدية المعتمدة للغات الشعوب التي سبق أن انضوت تحت لواء الاتحاد السوفياتي.

لذا، من الطبيعي أن يعرب الكثيرون من أبناء روسيا وبلدان الفضاء السوفياتي السابق عن مخاوفهم من احتمالات انعكاس مثل هذا القرار سلبًا على علاقات كازاخستان لاحقًا بكل هذه البلدان، على خلفية تصاعد المحاولات الرامية إلى النيل من تحالفاتها وما أقامته من تنظيمات اتحادية ووحدوية، فضلًا عن احتمالات تحول هذه البلدان إلى الطريق، نفسه وهو ما نشهد بعض "إرهاصاته" في قيرغيزستان المجاورة وأوزبكستان وطاجيكستان، إلى جانب المخاوف التي تساور بعض الكيانات الإقليمية داخل روسيا الاتحادية، ومنها تتارستان وبشكورتستان والشيشان وغيرها من التجمعات الإثنية الصغيرة، مثل القوميق في داغستان وقره شاي والشركس في منطقة شمال القوقاز، والتي ترتبط جميعها بمجموعة اللغات "الأتراكية" المنحدرة من مجموعة اللغات الألطية (نسبة إلى جبال مقاطعة ألطاي) التي تنتشر في أرجاء المنطقة، من شرق سيبيريا وحتى أراضي تركيا غربًا وما وراءها.

الشقيقة روسيا

هناك من يقول إن ما شهدته بلدان منطقة آسيا الوسطى من إنجازات لم تكن لتحققها بمعزل عن "الأبجدية الكيريلية" التي فتحت لها أبواب الثقافات السلافية والاوروبية، وهذا يدفع الكثيرين في عدد من هذه البلدان إلى عدم تعجل اتخاذ مثل ذلك القرار الذي اتخذته كازاخستان، ولا سيما في البلدان ضعيفة النمو التي لا تزال تعتمد في الكثير من جوانب تطورها على علاقاتها مع "الشقيقة الكبرى" روسيا، فضلًا عن منطقية الحقائق التي تقول أن التطور الطبيعي للتاريخ غير قاصر على حضارة أو أبجدية أو مرحلة زمنية بعينها، وهو ما تؤكده المراحل التاريخية لتطور مناطق اسيا الوسطي، وما حققته هذه المناطق من مكاسب على مدى عقود طويلة من تفاعل للحضارات، وما بلغه من شأو باهر الكثيرون من أبنائها&العلماء والفلاسفة، ومنهم الخوارزمي وأبو الريحان البيروني والفارابي وابن سينا​​ وآخرون كثيرون، ممن كان لهم أفضل الأثر في تطور العلم في أوروبا والعالم.

إذا أضفنا إلى ذلك ما حققته هذه البلدان من انجازات في كنف الامبراطورية الروسية ثم السوفياتية، فإننا نكون أمام "حالة فريدة النمط"، تقف مفرداتها على طرفي نقيض مع كل ما يقال حول أن الأبجدية العربية أو الكيريلية يمكن أن تقف حجر عثرة دون تقدم أي من الشعوب التي اضطرتها تقلبات التاريخ إلى التحول إلى أي منها، رغبة منها في تجاوز عثرات الزمان. أما عما يسوقه البعض من مبررات تقول بعجز لغة بعينها عن مواكبة العصر وملاحقة التطورات العلمية العالمية، فإن الواقع الراهن يقول بتهافت هذه المبررات وسقوطها أمام ما حققته وتحققه بلدان مثل الصين واليابان وكوريا الجنوبية من انجازات.

&

&