إيلاف من الرياض: يرى الكاتب والمفكر السعودي إبراهيم المطرودي، المهتم بالتراث الديني والفكر والفلسفة خلال حديث موسع مع "إيلاف" أن محاربة الفساد موضوع اللحظة، وموضوع اللحظات المقبلة. وخير ما يُقدمه وطن لنفسه وأهله أن يقف على قدميه ويترقّب كل لحظة الفساد والفاسدين، فيحرس نفسه وأهله المعتصمين به، ويملأ نفوسهم ثقة أنّ العدالة هي رايته التي يُناضل عنها، ويسهر في حمايتها؛ فالعدالة هي الدوحة التي يطمئن المواطنون في ظلها، ويستريحون من عناء الحياة في رحابها.

ويضيف المطرودي: "وإقامة العدل بين الناس نزل بها القرآن الكريم، وجعلها ثاني أمرين فرض على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقوم بهما بين الناس وليس المسلمين فحسب، {قل آمنتُ بما أنزل الله من كتاب وأُمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم}. ولا قيام للعدالة والفساد منتشر، وأصحابه متوافرون، وليس للعدالة طريق تشقه، وسبيل تمضي فيه، إلا على صدر الفساد ورؤوس الفاسدين. وحين نحاول معرفة أسباب عناية الإسلام بالعدالة بين الناس؛ نجد الفلاسفة طرحوا تفسير ذلك، وأبانوا عنه، فقال الأستاذ سقراط مُوضحا علة نشأة الدولة أصلا:" فلنبدأ بإرساء أسس الدولة في ذهننا، ولا شكّ أن الأساس الحقيقي هو الحاجة" ، فالناس، كما يذهب الفلاسفة، كانوا يعيشون أحرارا، ورأوا أن اجتماعهم يُحقق حوائجهم أكثر من بقائهم أحرارا، فدفعهم ذلك إلى الاجتماع، ونشأت بذلك الدولة، يقول سقراط:" في اعتقادي أن الدولة تنشأ من عجز الفرد عن الاكتفاء بذاته، وحاجته إلى أشياء لا حصر لها.... فإن المرء يستعين بشخص من أجل غرض من أغراضه، وبغيره من أجل تحقيق غرض آخر، وهكذا. وعندما يجتمع أولئك الشركاء الذين يُساعد بعضهم بعضا في إقليم واحد، نُسمي مجموع السكان دولة".

ويبين أن الفساد والفاسد يضربان بهذا الميثاق، الذي قام بين الناس، عرض الحائط، ويُفقدان الدولة قيمتها الكبرى التي قامت من أجلها، ويدفعان الناس الذين رضوا بالاجتماع أولا إلى التفكير في الفرقة والشتات من جديد؛ ليعودوا أحرارا كما كانوا أولا.

وللفلاسفة رأي حول هذه الآراء فالفيلسوف جون لوك يقول عن هذه الآثار الخطيرة قائلا:" لولا فساد الفئة الشريرة من البشر وخبثها لما احتاجوا إلى جماعة أخرى، واضطروا إلى الانفصال عن هذه الجماعة الطبيعية الكبرى والتكتل في جماعات أصغر" ، وهكذا يُجمع الحكماء، وكما هي رسالة الأديان، على أن العدل، وهو لا يقوم إلا على محاربة الفساد، السبب الرئيس في ائتلاف الناس واجتماعهم وإجهاض أي تفكير في الفرقة يقوم بينهم.

ويتابع: "وفي حديث المطرودي حول الفوائد التي تجنى من القضاء والحرب على المفسدين قال: &"علينا قبل أن ننظر إلى عوائد محاربة الفساد علينا، ونُفتش عن فوائد بلدنا من ورائها؛ يجدر بنا أن نقرر ما وصل إليه الفلاسفة في شأن العدالة ومحاربة الفساد. يذهب سقراط إلى أن العدالة، وثمرتها الوحيدة محاربة صنوف الفساد،:" قاعدة الحياة الإنسانية ذاتها". ويذهب أرسطو إلى أنها:" ليست جزءا من الفضيلة؛ بل هي الفضيلة كلها".

&ويسهب قائلا: "قادتنا يطلبون العدالة، ويحرصون على محاربة عدوها، وهو الفساد؛ لأنها دعوة ديننا، وحافظ وحدتنا، وزناد نهضتنا، ومن نهضتنا أن يأتي إلى بلادنا المستثمرون من كل حدب وصوب، فأحد معايير نهضة الأمة أن تستقطب رؤوس الأموال، ويأتي إليها المستثمرون، ويكونون لنا عونا في تشييد ما نصبو إليه، ونأمل في الحصول إليه، فهذه القرارات في محاربة الفساد رسالة إلى هؤلاء المستثمرين واضحة، تدعوهم إلى بلادنا، وتُمهّد الطريق لهم إليها".

واكمل قائلا: "ولا يجب أن أنسى أن أُذكّر بالاستثمار العلمي والفكري، فبلادنا تستحق أن يأتي إليها العلماء والمفكرون، وهؤلاء تصرفهم عنا، وأنا وقفتُ على حالات من ذلك، صورُ الفساد الإداري في المؤسسات العلمية التي تجعلهم يتذللون لأصغر موظف حتى يُمضي لهم مطالبهم، ويقضي لهم حاجاتهم التي كان يُنتظر منا أن نُقدّمها لهم دون عنت ولا مشقة!. &

&ويرى إبراهيم المطرودي أن مثل هذه &القرارات الحازمة مثل الحدود اشلشرعية، والله تعالى يقول في حد القتل مثلا:{ ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب}، تقوم بوظيفتين؛ الأولى معاقبة المخطئ، والثانية حجز غيره عن الخطأ، فالقتل حدا يُعاقب به الجاني، وتُحفظ به نفوس الناس من غيره، وكذلك هي القرارات الحازمة تُنزل العقوبة بالفاسد، وتمنع غيره من أن يسلك سبيله. وبهذه القرارات يُحفظ الوطن وأهله من أن يتطلّع إلى المناصب الفاسدون الذين جعلوا المناصب مصارف، يأخذون منها ما استطاعوا، وينهبون منها ما تُهيّئه الفرصة لهم. ومتى نفضت مؤسسات الدولة، بفضل حكمة قادتها، الفاسدين من العاملين فيها، ووضعت دونهم خطوطا حمراء؛ فلن يجد رجال الأعمال الفاسدون مَنْ يبحث عنهم، ويستقبلهم حتى يَشْركهم في كعكة المشاريع النتنة، وبصلاح رجال الإدارة يُكفى البلد شرور رجال الأعمال الأشرار، فلولا فساد بعض المسؤولين؛ ما كان لهذه الثلة الفاسدة من رجال الأعمال أن تجد لها أبوابا، تلجُ منها إلى مؤسسات الدولة ومشاريعها. & &
&
وهو يضيف: "محاربة الفساد واجب و قَدَرُ كل دولة؛ تُحب أن تبقى دولة، وقدر كل دولة تحب أن تبقى محبة شعبها لها، وقدر كل دولة عازمة على النهوض والتقدم، ودولتنا حريصة على هذه الثلاث، وجادة في استبقائها؛ فقادتها يبذلون جهودهم في بقائها دولة، وهم حريصون على محبة شعبهم لهم، وماضون بعزم في سبيل النهوض والتقدم، وما دامت الدولة حفيّة بهذه الثلاث، وحريصة عليها؛ فهي جادة في مكافحة الفساد ومحاربته".

&وتابع: "إن قادتنا، وعلى رأسهم خادم الحرمين، يعون تمام الوعي أن الفساد مرض ينخر جسد الدولة ومؤسساتها، ويدركون أن صناعة الدولة وحفظها من أصعب المهمات وأوعر المطالب، وهم لهذا جادون في محاربة الفساد، عازمون على ترسية عقوبات تمنع من وقوعه في المستقبل، وساعون إلى بناء دولة فاضلة، والدولة الفاضلة، لا تقوم إلا على الجهود المضنية وتحمل الأعباء؛ كما قال أرسطو:" أما كون الدولة فاضلة، فليس من صنع الأقدار، وإنما من صنع العلم والإرادة الحرة".

&وقال: "الدولة جادة في محاربة الفساد، وليس لها إلا أن تكون كذلك؛ لأنه يقتل الكفاءات، وبقتلها تُقتل البلدان؛ لأن البلدان تقوم بالكفاءات وحدها إداريا واقتصاديا وفكريا وثقافيا. ونحن جميعا، والبشرية قبلنا ومن بعدنا، نُقر ّ بل نؤمن أن الكفاءات هي التي تصنع البلدان وتقود نماءها. خذوا من النماذج السياسية مثلا: الملك عبد العزيز إنه كفاءة سياسية قامت على جهوده هذه الوحدة الوطنية التي يسعى خادم الحرمين أن يحفظها عبر مكافحة الفساد ومحاربته. وخذوا من نماذج الكفاءة الدينية مثلا: علماء المذاهب في تأريخ الإسلام الذين ما كان للمذاهب أن تقوم دونهم. وخذوا من نماذج الكفاءة العلمية: سقراط، وأفلاطون، وجون لوك، وأينشتين. هؤلاء جميعا كفاءات فردية، وحسبنا من الفساد في الدولة أن يقتل الكفاءات، ويُسند الأمور إلى غير أهلها. &

&وختم المطرودي حديث وقال الدولة ستُحارب الفساد، وتتعقّب أهله؛ لأنها تُريد مواطنين شجعانا وأُمناء، فالوطن لا يبنيه إلا الشجاع الأمين،{ إن خير من استأجرت القوي الأمين}. الدولة ستقف في وجه الفساد؛ لأنها تريد أن تُثبت لأولئك الذين يقولون: السعوديون ضعيفو الأداء، ولا تُبنى عليهم نهضة؛ أنهم واهمون ومخطئون، ولو أرادوا الصدق والحق لقالوا: إنّ الفساد وأهله هما اللذان هدّا المواطنين، وأضعفا أداءهم، وبثّا روح التهاون في جمع غفير منهم.