«إيلاف» من الرباط : قال نزار بركة، الأمين العام لحزب الاستقلال المغربي، إنه من الضروري على السياسي أن يستعيد مكانته في المجتمع المغربي، فهو لبنة أساسية بالنسبة للبلاد التي تبن يديمقراطيتها، في ظل تسجيل تحول سريع ومتواصل، يشمل مختلف المجالات.
و أوضح بركة في محاضرة بعنوان"رؤية جديدة للممارسة السياسية"، نظمتها مؤسسة علال الفاسي بالعاصمة الرباط مساء الجمعة أن الأحزاب السياسية لها دور كبير في التأطيرلتفادي حدوث انزلاقات، و هو ما يفرض توظيف الفرص الإيجابية التي تتمتع بها البلاد من استقرار سياسي، وانتقال ديمغرافي،و رأسمال لا مادي كبير، و التطورات الحاصلة في مجال التنمية المستدامة، والتي بإمكانها تحقيق الأهداف المنشودة إذا استطاع العمل السياسي مواكبتها.

بركة وسعيد بن سعيد العلوي

تراجع دور السياسة

و اعتبر المتحدث أن إشكالية تراجع دور السياسة والعمل السياسي في العالم ترتبط بثلاثة محاور أساسية، ينبني أولها على التساؤل حول إمكانية وجود حاجة للفعل السياسي رغم كل التطورات والمؤثرات التي تشكك فيه، وثانيا ما يحدث من تحول سريع على الصعيد الدولي يؤدي إلى انحسار السياسي في الوقت الذي تبرز فيه أشكال جديدة من الوساطة مع المواطن، و يتمحور التساؤل الثالث حول ما هية ملامح و مقومات هذه الرؤية الجديدة التي تحتاج لنظرة سياسية، تتم خلالها إعادة النظر في الممارسات والتطورات الحالية، وهو ما قد يؤدي لنقاش عمومي ووجهة نظر مختلفة.
و أشار بركة ،الذي يشغل كذلك منصب رئيس المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي ،إلى وجود حاجة ماسة اليوم للفعل السياسي رغم التحديات التي تواجهه، لأنه لا وسيط يمكن أن ينوب عن السياسة في أداء أدوارها، المتمثلة في تأطير وانخراط المواطنين في الحياة في توازن بين الحق والواجب، تقوية الانتماء للوطن، فضلا عن كونها فضاء من أجل التعبير عن الآراء و المساهمة في اتخاذ القرار السياسي، وتوجيه السياسات العمومية و تحقيق التغيير، و القيام بدور الوسيط بين المجتمع والسلطة و كذا المساهمة في تدبير الأزمات و استشراف المستقبل.
و أفاد بركة أن التحول المجتمعي و انحسار العمل السياسي مرتبط بعدة أسباب وطنية ودولية، منها إشكالية الثقة في العمل السياسي، مستدلا ببريطانيا كأعرق ديمقراطية في العالم، و التي تمثل نسبة الثقة في الأطباء 95 بالمائة، وفي المواطن العادي 65 بالمائة، في حين لا تتجاوز 11 بالمئة بالنسبة للسياسي. و هو نفس ما يحدث في المجتمع الأميركي، بحيث كانت نسبة الثقة تمثل 70 بالمئة في الستينات، أما اليوم فهي لا تتجاوز 20 إلى 25 بالمائة.

عباس الفاسي ومحمد اليازغي

 

تحديات مطروحة

و قال المتحدث إن الإشكالية مرتبطة بتداعيات العولمة على سيادة القرارات والسياسات الوطنية، في ظل وجود تكتلات جهوية كالاتحاد الأوروبي مثلا، حيث يتم إخراج السياسات المطبقة في إطار هذه التكثلات، مما ينتج عنه فقدان السيادة عن السياسات العمومية، إضافة إلى حدوث تحولات سريعة للنماذج الاقتصادية بآثارها السلبية على الشغل، والطبقات الوسطى والاستدامة.
و اعتبر بركة أن أزمة الثقة الحاصلة في العمل السياسي دوليا ناجمة عن تراجع في الإيديولوجيات السياسية الكبرى و تفجير التموقعات الكلاسيكية (يمين، وسط، يسار، محافظ وتقدمي)، وبروز هويات و حركات انفصالية (ترابية، طائفية، قومية وثقافية)، فضلا عن تراجع النموذج المبني على الوسائط في المجال الاقتصادي والسياسي وتراجع الطبقات المتوسطة.
و أشار الأمين العام لحزب الاستقلال إلى أن هناك تراجعا على مستوى المنظومة التقليدية للأحزاب مقابل صعود جيل جديد منها: حركات تحكمها كاريزمات شعبوية تحيي الشعور القومي (اليمين المتطرف)، وحركات سياسية احتجاجية من دون مشروع أو برنامج (بريكست)، وحركات سياسية ذات خلفيات جهوية (بوديموس، سيريزا)، إلى جانب انتقال الشباب خاصة نحو الفضاءات الافتراضية للنقاش السياسي، لما تضمنه من حرية أكبر في التعبير، و في تأثير مباشر على الرأي العام والحياة السياسية، حيث أن 89 بالمائة من الشباب يفضلون الوسائط الرقمية لتتبع السياسة في بريطانيا.

الانحسار السياسي في المغرب

و بشأن الانحسار السياسي وطنيا، قال بركة إن المغرب عرف انتقالا ديمقراطيا ابتداء من أوائل الستينات، تمثلت إيجابياته في ارتفاع منسوب الوعي السياسي واليقظة والاهتمام بالشأن المحلي والعام لدى المواطنين، خاصة بعد دستور 2011، علاوة على تسجيل ارتفاع في سقف الحقوق والمطالب الاجتماعية والاقتصادية، و أشار الى أن وصول الانتقال الديمغرافي إلى المنحنى الأخير يبرز تحديات تنامي ظاهرة شباب من دون تكوين ولا عمل ، والذين يمثلون أكثر من 2,5 مليون شاب وشابة.
و زاد قائلا"هناك تحديات تدبير التنوع الثقافي والتعايش والتضامن داخل المجتمع، لا سيما إزاء تداعيات الانفتاح والهجرة، فضلا عن وجود عزوف على مستوى المشاركة في الحياة السياسية، فنسبة المشاركة في الانتخابات الأخيرة لم تتعدى 30 بالمائة، وهو ما يترجمه ضعف الانخراط في الأحزاب السياسية رغم المجهودات المبذولة، مما يؤدي إلى بروز خطابات شعبوية وشخصنة التدافع السياسي".

جانب من الحضور بالمحاضرة

مؤشر الثقة

و حول ما يمكن استنتاجه من دروس على المستوى الدولي، قال بركة إن دول شمال أوروبا تحظى بنسبة 80 بالمائة فيما يخص مؤشر الثقة، مقابل نسبة ضعيفة لدول أميركا اللاتينية وإفريقيا، في حين حصل المغرب على نسبة تتراوح ما بين 35 و50 بالمائة، وفق دراسة دولية.
و أشار الى أن رؤية جديدة للممارسة السياسية تعتمد على أربعة ركائز، تهم التفكير والتوجه الاستراتيجي الذي يتجاوز البرنامج الانتخابي أو الحكومي ويساهم في تناول القضايا الوطنية الكبرى من قبيل الصعود الاقتصادي، التشغيل، التوزيع العادل للثروة، و محاربة الفساد، و مواكبة التحولات المجتمعية وتعقيدات الحياة اليومية للمواطن، في أفق استباق الأزمات و استشراف المستقبل.
وزاد بركة قائلا"من الضروري وجود تفاعل مع الأوضاع الحاصلة، عن طريق القرب الترابي المتواصل مع المواطنين، الإنصات لاحتياجاتهم، إعطاء أهمية للشباب ووضع أرضية للتفاعل معهم، و ينبني المرتكز القائم على الترافع على تبني مطالبهم المشروعة في إطار مبادرات مواطنة، إضافة إلى تأطير النقاش العمومي وتنشيط فضاءات الحوار المدني، لذا فقد أضحى من الواجب تجاوز منطق الشعارات و العمل على التفعيل من أجل مصداقية أكبر. لدينا مشكل أزمة الثقة كأحزاب سياسية، وهو ما ينبغي مواجهته بالعمل على ربط القول بالفعل، والعمل على ترجمة حاجيات و انتظارات المواطنين باتخاذ تدابير عملية قابلة للتنفيذ على ضوء التفكير والذكاء الاستراتيجي".

تجاوز الثنائيات
و أكد الأمين العام لحزب الاستقلال على ضرورة تجاوز بعض الثنائيات، منها ثنائية السياسي والتقنوقراطي، والتي اعتبر أنها خطيرة لكونها تقلل من شأن السياسي وتعتبره غير قادر على تطبيق السياسات، فضلا عن ثنائية القطبية مقابل التعددية، والتي تقسم المجتمع حسب الأخيار والأشرار، مما يهدف لإحداث شرخ في المجتمع بإقحامه في منطق الأتباع عوض الانخراط في مشروع مجتمعي يهم كافة المواطنين.
و زاد بركة قائلا"هناك كذلك ثنائية المجتمع السياسي مقابل المجتمع المدني، وهنا يصبح لزاما علينا إحداث التكامل والعمل المشترك لكي نحقق الإصلاحات الكبرى، فالمغرب إمكانياته محدودة، وهذه الثنائيات تقلص من الجهود و تفقد القدرة على إحداث التغيير بالبلاد. 
و اعتبر أن تجاوز أزمة الثقة يفرض إبرام تعاقدات سياسية كبرى، تهم تخليق الحياة السياسية، تقوية الارتباط والتمثيلية بين المنتخبين والمواطنين، إطفاء مزيد من الشفافية على الحياة السياسية مع وضع آليات للحوار المفضي إلى توافقات بين الفاعلين السياسيين والمجتمع المدني.

فن الممكن

من جانبه، قال الأكاديمي والكاتب المغربيةً سعيد بن سعيد العلوي، إن الحياة السياسية الطبيعية في كل ديمقراطية تحترم نفسها تقتضي القيام بوقفات جوهرية والإحاطة بتساؤلات حول نظرتها للمستقبل.
و أضاف أن المغرب يعيش حاليا فترة تحول هائل من خلال مجموعة من المعطيات والأدلة التي تهم المستويين الإيجابي والسلبي، هذا الأخير الذي يمثل أساسا ظاهرة تؤرق المجتمع و تمثل أساسا عزوف الشباب عن العمل السياسي، مع تبخيس الأحزاب وغياب رؤية سياسية واضحة.
و زاد العلوي قائلا"نتحدث عن المجتمع الحداثي الديمقراطي ودولة القانون لكنهما لا يكونان من دون حياة سياسية سليمة، يقوم فيها المجتمع السياسي تحديدا بالأدوار المنوطة به، وبالتالي فلا وجود لتنمية شاملة إذا لم تتخذ في عمق اهتماماتها إسعاد المواطن المغربي، في وجود القوى الحية بالبلاد ممثلة في الأحزاب الوطنية، مع ضرورة الاهتمام بقضايا الفقر المدقع والهشاشة.
و يرى الأكاديمي المغربي أن السياسة لا يمكن أن تكون دون أخلاق لأنها ستتحول لانتهازية و ديكتاتورية في أسوء صورها وتجلياتها، فهي تعني فن الممكن والقيام بمشروع يعتمد على رؤية جديدة بمساهمة القوى السياسية.