الرباط: بعد أزيد من 3 سنوات من إصداره فتوى شرعية أيّد فيها حكم قتل المرتد عن دينه، وما أثارته من نقاش ساخن آنذاك، بين مؤيد ومعارض، عاد المجلس العلمي الأعلى بالمغرب، ليثير الموضوع من جديد، لكن هذه المرة بنفس تجديدي غير مألوف، يرتقب أن يثير لغطًا وجدلاً كبيرين في الساحة الدينية والسياسية بالبلاد.

وفي موقف مناقض لما أعلنه سابقًا من تأييده لقتل المرتد في الإسلام، تبنى المجلس العلمي الأعلى الذي يترأسه الملك محمد السادس بصفته أميرًا للمؤمنين، في دورته الأخيرة المنعقدة بالعاصمة الرباط، وثيقة سميت بـ"سبيل العلماء"، فهمًا جديدًا للردة وحكم المرتد في الإسلام، حيث ذهب المجلس إلى أن الردة التي تحدث عنها الإسلام "سياسية وليست فكرية"، وذلك في إشارة واضحة من المجلس إلى تبنيه حرية المعتقد التي ينادي بها عدد من العلمانيين والحداثيين بالبلاد.

وجاء في الجزء المثير من الوثيقة، التي وزعت بشكل حصري على العلماء الأعضاء في المجلس العلمي الأعلى، وحصلت عليه "إيلاف المغرب": "لقد أثيرت في الإسلام قديماً ولا تزال تثار قضية الردة والمرتد، ويبقى الفهم الأصح والأسلم لها المنسجمُ مع روح التشريع ونصوصه ومع السيرة العملية للنبي صلى الله عليه وسلم أن المقصود بقتل المرتد هو الخائن للجماعة، المفشي لأسرارها والمستقوي عليها بخصومها؛ أي ما يعادل الخيانة العظمى في القوانين الدولية".

محمد&يسف&الأمين&العام&للمجلس&العلمي&الأعلى&في&المغرب

وأضافت الهيئة العلمية التي يشرف عليها العلامة محمد يسف، في بسط رؤيتها وفهمها الجديد، أن ما ذهبت إليه من كون مفهوم الردة في الإسلام يعادل الخيانة العظمى في القوانين الدولية، يسنده معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "من بدل دينه فاقتلوه". المقيد بقوله صلى الله عليه وسلم: "التارك لدينه المفارق للجماعة".

وزاد المجلس العلمي الأعلى مبيناً أن "ترك جماعة المسلمين لم يكن حينها إلا التحاقًا بجماعة المشركين، الذين هم خصومهم وأعداؤهم في سياق الحروب الدائرة بينهم"، قبل أن يخلص إلى أن "الردة هنا سياسية وليست فكرية".

ومضى المجلس موضحًا في الوثيقة التي جرى التكتم عليها بشكل واضح أن القرآن الكريم تحدث عن "الردة الفكرية في آيات عديدة ولم يرتب عليها عقوبة دنيوية وإنما جزاء أخرويا كما في قوله تعالى: ﴿ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فقد حبِيطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون﴾ [البقرة] 215، كما أن ثمة شواهد في السيرة النبوية، منها صلح الحديبية الذي كان من بنوده: أن من أسلم ثم ارتد إلى قريش لا يطالب به المسلمون، وأن من التحق بالمسلمين من المشركين استردوه"، وذلك في مرافعة قوية للإقناع بما خلص إليه المجلس في رأيه الجديد.

وأشار المجلس، في وثيقة "سبيل العلماء"، إلى قصة الرجل الأعرابي الذي أسلم ثم طلب إقالته من شهادته، مؤكدًا أن الرسول صلى الله عليه وسلم "لم يفعل معَهُ شيئاً، فخرج من المدينة ولم يلحقه أذى، وإنما قال النبي صلى الله عليه وسلم "المدينة كالكير تنفي خبثها وينصعُ طيبها"، بالإضافة إلى حالات أخرى ارتدت على العهد النبوي ولم تُحَدَّ بهذا الحد".

وأضاف المجلس، حسب المصدر ذاته، أن قتال أبي بكر&للمرتدين "لم يكن إلا بالمعنى السياسي العام، ضد طائفة شقت عصا الطاعة على الإمام، وأرادت أن تفرق وحدة الجماعة، وتفسد فهم الدين بتعطيل أحد أركانه"، مسجلاً أن من المعلوم أن الدين "كان ولا يزال عمود الاستقرار الأساس في المجتمع. وما كثير من الفتن والحروب الدائرة اليوم إلا بسبب فساد تأويله وسوء استغلاله وتوظيفه".

ويراهن المجلس العلمي الأعلى، حسب المعطيات التي توصلت إليها " إيلاف المغرب"، على وثيقة "سبيل العلماء"، من أجل المساهمة في "بناء فكري حول دور العلماء، مؤسسًا على النموذج المغربي المعيش، الذي تُتيحه مرجعية إمارة المؤمنين ووفاء المغاربة لثوابتهم، وابتكار المغرب بقيادة إمامته العظمى لحياة سياسية مندمجة يُعتبر فيها التأطير بالمؤسسات توجهًا تسانده من جهة الدين قدسية الأمر الجامع، ويُدَعِمُّه الالتزام بالقوانين التي لها شرعية المصلحة العامة، ويُفسح له اعتماد الحرية التي هي النمط المناسب لصحة التكليف الشرعي".

ولم يتسنَّ لـ"إيلاف المغرب" أن تستطلع آراء الفاعلين المعنيين بالموقف والرأي الجديد للمجلس العلمي الأعلى حول قضية حكم الردة في الإسلام، بسبب عدم اطلاعهم على ما جاء فيها حتى الآن، لكن من المؤكد أن المسألة ستشعل من جديد النقاش حول حرية العقيدة والخروج عن الدين في المغرب.