لندن: ذات ليلة في الأيام الأولى للانتفاضة السورية تسلل محسن المصري ومجموعة من الناشطين عبر شوارع دمشق. وتحت جنح الظلام فتحوا أكياسهم وأطلقوا سيلا من الألوان. إذ تقاذفت آلاف من كرات البنغ بونغ الخضراء والوردية والزرقاء والصفراء أمام رجال الشرطة الذين تراكضوا لجمعها.&

وظل الأهالي يعثرون على هذه الكرات بين الشقوق وفي الزوايا بعد أشهر على الواقعة. وكُتبت على كل كرة كلمة واحدة هي "الحرية".&

رحلة الى الجحيم

كان عقاب المصري على هذا الاحتجاج السلمي رحلة الى الجحيم، استثنائيا لا بسبب ما رآه من اهوال وانما بسبب نجاته منها.&

وفي سلسلة من المقابلات مع المصري وصف كيف جرى تعذيبه واستجوابه على امتداد عامين في أربعة معتقلات قبل أن يصل الى المستشفى رقم 601 سيئ الصيت بعد ان حوله نظام الأسد الى مسلخ.

ولكن المستشفى 601 ليس مركز التعذيب الوحيد في سوريا بل ذاع صيته بعد تهريب عدد كبير من الصور الفوتوغرافية لآلاف الجثث التي أُحيل اصحابها هياكل عظمية قبل تصفيتهم.&

وفي هذا المستشفى الذي يبعد أقل من كيلومتر عن قصر بشار الأسد يُعذب المعتقلون المرضى وهم مقيدون على أسرة مكتظة بالمحتضرين، كما قال المصري وسجناء سابقون وعسكريون كانوا يعملون هناك. وكانت الجثث تُكدس في الحمامات والأبنية الملحقة بالمستشفى وأي ركن يمكن رميها فيه ثم تُسجل وتُحفظ لدفنها في مقابر جماعية.&

وفي مقابلات اجرتها صحيفة واشنطن بوست في لبنان وتركيا واوروبا تحدث أكثر من 12 ناجياً وعسكرياً منشقاً عن الفظائع التي تُرتكب في مستشفيات جيش النظام والتي قال محامون مختصون بجرائم الحرب انهم لاقوا صعوبة في ايجاد مثيل لها.&

ينتمي السجناء السابقون الى شرائح مختلفة بينهم الميسور والعامل البسيط، اليساري والمتدين، قاسمهم المشترك هو انتفاضة 2011 في سوريا. البعض شارك في اشعالها والبعض الآخر لم يفعل سوى التعليق على ما نشره اصدقاء يؤيدون الاحتجاجات على فايسبوك.&

"مسالخ"

ويقول محققون ان الشهادات والوثائق المتجمعة من مستشفيات جيش النظام تقدم بعضاً من أقوى الأدلة الملموسة حتى الآن على وقوع جرائم بحق الانسانية تكفي لإحالة اقطاب النظام على العدالة.&

وأكد المصري في مقابلة أُجريت معه مؤخرا "ان المستشفيات كانت مسالخ".&

&

صورة نشرتها "واشنطن بوست" لمحسن المصري قبل وبعد سجنه

&

واستُخدم الدواء سلاحاً في الحرب منذ الأيام الأولى للانتفاضة حين كان اطباء النظام يجرون عمليات بتر على محتجين مصابين بجروح طفيفة. وخصصت المستشفيات العسكرية ردهات للمعتقلين لكنها اخذت تزدحم بهم وتُبقيهم في ظروف مزرية.&

وبحسب قائمة اعدتها الشبكة السورية لحقوق الانسان فان أكثر من 100 الف اعتُقلوا أو غُيبوا في سوريا منذ بدء الانتفاضة.&

بدأت رحلة محسن المصري مع العذاب في ربيع 2012 عندما اعتُقل في طريقه الى اجتماع للمعارضة في سوريا. وبعد تعرضه الى التعذيب مرات متكررة اثناء نقله من سجن الى آخر وصل الى سجن صيدنايا الرهيب.&
&
وقال المصري ان السجناء تعلموا ان يلتزموا جانب الصمت حين يسألهم الحراس إن كانوا يريدون زيارة المستشفى لأن من يذهب الى هذه المستشفيات نادراً ما كان يعود.&

بعد أشهر من التجويع أُدرج اسم المصري على قائمة النقل الاسبوعية. وفي المستشفى كان كل من يصل تُقام له حفلة "ترحيب" من الضرب المبرح يشارك فيها الحراس واشخاص يرتدون معاطف بيضاء فوق ملابسهم العسكرية. وفي المستشفى رقم 601 كان الأضعف يُرمى على الأرض ويعذَّب. وفي مستشفى تشرين العسكري القريب قال العامل الفني السابق هناك محمد الحمود انه شاهد سجناء يُسحبون على السلالم من شعرهم.&

وقال طالب الفيزياء الدمشقي سومر مصطفى الذي أُرسل الى المستشفى 601 أنه رأى معتقلين مقيدين الى أسرتهم ومحشورين بحيث جلسوا وركبهم مغروزة في صدورهم.&

وكانت فترات زيارة المرافق الصحية نادرة حتى ان سجناء كانوا يتغوطون في مكانهم ويبقون في البقعة نفسها طيلة ايام. واضاف مصطفى "كنا معصوبي الأعين مع تلك الرائحة من حولنا. ولا يستطيع المرء ان يطردها من الذاكرة حتى بعد الخروج".&

تقدر لجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة ان خمسة فروع على الأقل من اجهزة النظام الأمنية تدير ردهات في المستشفى 601 منذ عام 2011.&

وجاء في تقرير للجنة عام 2013 "ان المعتقلين، بمن فيهم اطفال، كانوا يتعرضون للضرب والحرق بالسجائر والتعذيب باستغلال اصابات سابقة". وخلصت اللجنة الى ان العديد من المرضى عُذبوا حتى الموت داخل المستشفى.&

كان الحراس يستخدمون الألقاب في ما بينهم لتفادي التعرف على هوياتهم واسمائهم الحقيقية. وقال اربعة ناجين ان اشهر الحراس معروف بلقب عزائيل. وهو بحسب وصفهم رجل مربوع من اللاذقية يحمل عصا مطعَّمة بشفرات. وكان يختار سجناء غالبيتهم في حالة مرضية خطيرة لاعدامهم.&

ويتذكر المصري ان عزائيل اشعل ولاعة في كيس بلاستيكي وأذابه قطرة فقطرة على وجه سجين الى ان مات بنوبة قلبية. وقال سجناء آخرون انه استخدم قضيباً من الحديد لتهشيم جماجم رفاق لهم في المستشفى.&

كثيرون كانوا يموتون على الأسرّة بجانب رفاقهم الأحياء حتى الصباح. وفي يوم شتاء عام 2012 نام مصطفى على سرير واحد مع ثلاث جثث حتى شروق الشمس في اليوم التالي.

واقرت وثائق تحمل تواقيع مسؤولين كبار في النظام وأجهزته الأمنية بارتفاع عدد الضحايا شاكين احياناً من تكدس الجثث.&

صور توثق الجرائم

وكان منشق عن الشرطة العسكرية معروف باسم قيصر هرب كمية كبيرة من الصور الفوتوغرافية التي توثق جرائم النظام في عام 2014، غالبيتها من المستشفى رقم 601 حيث قام قيصر بتوثيق موت نحو 11 الف شخص.&
&
ولاحظ نديم خوري من منظمة هيومان رايتس ووتش لحقوق الانسان ان هذه الصورة التقطها شخص واحد خلال فترة واحدة وهي ليست إلا نسبة ضئيلة مما كان يُسجل فعلا.&

وتحدث منشقون عن وضع جثث مرقمة في اكياس شفافة في المستشفى رقم 601 ومستشفى تشرين العسكري القريب ومستشفى حرستا. وجمع محققون من الأمم المتحدة وشركات محاماة خاصة شهادات مماثلة من مدن حمص وحلب ودرعا.

الناجون من هذه المسالخ كانوا يُنقلون الى سجون قريبة، كما قال المصري الذي أُرسل الى سجن صيدنايا حيث كان بانتظاره عام من التعذيب وليال قضاها ملتصقا بآخرين في الظلام. وشعر المصري انه منسي.&
&
ذات صباح شتائي في عام 2014 استيقظ المصري من حلمه بحمام يغسل عامين من القذارة على صوت حارس في زنزانته يقول له آن وقت المغادرة. وقال المصري ان لا يستطيع ان يصف مشاعره حين سمع الحارس.&

لدى عودة المصري الى بيته في دمشق يتذكر وقوفه وحيدا في غرفة الحمام حيث اغلق عينيه ليشعر اخيرا بالسلام. وحين فتح عينيه رأى رجلا شاحباً نحيلا ينظر اليه في المرآة. وقال المصري "بدأتُ أصرخ". فهو لم يتعرف إلى نفسه.

أعدت "إيلاف" هذا التقرير بتصرف عن "واشنطن بوست". الأصل منشور على الرابط التالي:&

https://www.washingtonpost.com/world/middle_east/the-hospitals-were-slaughterhouses-a-journey-intosyrias-secret-torture-wards/2017/04/02/90ccaa6e-0d61-11e7-b2bb-417e331877d9_story.html?hpid=hp_hp-top-table-main_syrianhospitals-8pm%3Ahomepage%2Fstory&utm_term=.734b17416b4b
&


&