خاص بايلاف من باريس: بعد البريكسيت في بريطانيا وانتخاب دونالد ترامب رئيسًا للولايات المتحدة، تنتخب فرنسا في 23 أبريل و7 مايو رئيسًا جديدًا لها، في استحقاق يشكل سابقة في تاريخ الجمهورية الخامسة، إذ يعاني فيه الحزبان الأساسيان، حزب الجمهوريين والحزب الإشتراكي، أزمات داخلية تهدد استمراريتهما، فمرشحوهما مهددون بالإقصاء من الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية التي تجمع استطلاعات الرأي على تصدر مارين لوبين، زعيمة الجبهة الوطنية (اليمين المتطرف) هذه الدورة، ويليها أو يوازيها المرشح الوسطي إيمانويل ماكرون. وتتفاوت النتائج التي يحققها مرشح اليمين فرانسوا فيون ومرشح أقصى اليسار جان لوك ميلانشون في انتخابات يتنافس فيها 11 مرشحًا. 

تراجع الشعبية
يعاني مرشح اليمين فقدان الصدقية. فبعد أن تصدر السباق الرئاسي في الإحصائيات، يتراجع في استطلاعات الرأي التي تضعه أحيانًا في المرتبة الرابعة بعد ميلانشون على خلفية فضائح الفساد المالي واستغلال نفوذ طالته مع عائلته وكسرت صورة من قدم نفسه مرشح النزاهة وفاز عبرها في انتخابات الأحزاب التمهيدية، في مواجهة منافسيه الرئيس السابق نيكولا ساركوزي ورئيس الوزراء الأسبق آلان جوبيه. حينها أطلق عبارته الشهيرة: من يُمكن أن يتخيل مؤسس الجمهورية الخامسة الجنرال شارل ديغول يلاحق بتهم فساد سياسي؟ ما أثار غضب معسكري ساركوزي وجوبيه داخل الحزب. 
أما الحزب الإشتراكي فيعاني مرشحه بنوا هامون غياب دعم قيادات الحزب له، إذ اصطف بعضها وراء ماكرون، فوجد هامون نفسه، الوزير الأسبق في حكومة مانويل فالس الإشتراكية الأولى، مكروهًا من بعض قيادات الحزب، التي دافعت عن عهد الرئيس الإشتراكي فرانسوا هولاند، لأن هامون في الأصل من عداد فريق الساخطين الذين استقالوا من حكومة فالس اعتراضًا على سياستها الاقتصادية، وكان من بين من وقع مذكرة حجب الثقة في البرلمان. 

رفض السياسة القائمة
يقول بيار لويس ريمون، الباحث الأكاديمي الفرنسي: "لم تعد الأحزاب التقليدية الفرنسية قادرة على امتصاص غضب شعبي يكتسح فرنسا بصورة متزايدة، لأن الأنموذجين الليبرالي والإشتراكي لم يعودا قادرين على تقديم محفزات جديدة يبحث عنها المواطن الفرنسي، قائمة على رفض السياسة القائمة التي يراها الشعب الفرنسي سياسة فاشلة، منها سياسة هولاند التي تميزت بالكثير من المراوغات وعدم الحسم في مجموعة من القرارات كالأزمة في سوريا، إضافة إلى الغضب الشعبي الذي رأى أن هولاند انتهج نهجًا ليبراليًا مبتعدًا عن دعائم السياسة الشيراكية المعهودة، من دون تغييب رغبة في تكريس صراع الأجيال، حيث أن جيل فرنسا الثلاثيني والأربعيني يشعر اليوم بالغبن والكره للطبقة السياسية، ويلتف حول مرشحين لم يطبعوا السياسة الحالية كلوبين وميلانشون ووزير الإقتصاد السابق ايمانويل ماركون".
لا يغيب بيار لويس ريمون المحيط الأوروبي وتأثر الناخب الفرنسي في سياسات الإتحاد الأوروبي، التي فرضت التقشف على الدول الأوروبية في السنوات الماضية لخفض العجز العام في ميزانية الدولة إلى أقل من ثلاثة في المئة، وفرض الضرائب على المواطنين ذوي الدخل المحدود. 
يقول ريمون: "المشهدان الأوروبي والعالمي عاشا متغيّرات عدة، منها خروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي، الذي إن دل على شيء فعلى سياسات الإتحاد الأوروبي الفاشلة، إذ اتبع سياسة إستبدادية تجاه دوله الأعضاء وبات يميل نحو التصور السيادي أكثر منه الليبرالي، ما أدى إلى هذا الإنكماش في المجتمع الفرنسي ودفع بشريحة من المجتمعات الأوروبية إلى اللحاق بالأحزاب المتطرفة التي تنصب نفسها ضامنة للرخاء الإجتماعي، ما احدث تغيّرات في توجه الناخبين منها الطبقة العمالية التي تميل الآن إلى الجبهة الوطنية أو اليسار الراديكالي بعد أن كانت اصواتها تذهب تقليديًا إلى اليسار، وبالتالي نشهد متغيّرًا داخليًا سياسيًا يكمن في التوجه نحو التطرف السياسي واعتبار الإعتدال السياسي ضعفًا عند الطبقة العمالية. أما الطبقة المتوسطة فتظل مرتبكة وذات توجهات معتدلة، وهي تتضمن فئة المترددين الذين قد يحسمون السباق الرئاسي". 

الإرهاب المربك 
أربك اعتداء جادة شانزيليزيه الإرهابي، الذي راح ضحيته شرطي، وتبناه تنظيم داعش، حملة الانتخابات الرئاسية في يومها الأخير، وعلق ثلاثة مرشحين يتصدرون السباق الرئاسي (لوبين وفيون وماكرون) تجمعاتهم الانتخابية واستعاضوا عنها بكلمات ألقوها من مراكز حملاتهم الانتخابية. 
يرى ريمون أن اعتداء الشانزيليزيه يمكن أن يؤثر في نفسية الناخب الفرنسي، وهو يتوجه إلى صناديق الاقتراع، "وبات الموضوع الأمني مطروحًا أكثر من أي وقت مضى وربما يشكل المنعطف الذي قد يجعل الناخب المتردد يصوت لمن يراه الأنسب في التصدي للهجمات الإرهابية، وربما يكون فيون المستفيد الأكبر إذ قد تتاح له العودة إلى الواجهة، وقد ينسى الناخب الفرنسي المتاعب القضائية التي تورط بها، وقد يكون ايضًا رد الناخب الفرنسي انتقاميًا وليس التصويت العقابي، بل المقاطعة، وهذا الموضوع أساسي لأن المترددين يمتلكون مفتاح الفوز في السباق الرئاسي". 
يبلغ عدد المترددين نحو 15 مليون ناخب من أصل زهاء 44 مليونًا يصوتون في الانتخابات الرئاسية الفرنسية.

مدن الحسم 
تشكل منطقة إيل دو فرانس، التي تضم العاصمة باريس، مفتاحًا اساسيًا يضمن الفوز في السباق الرئاسي، وتتقاسم النفوذ فيها اليمينية فاليري بيكريس التي تتولى رئاسة المنطقة والاشتراكية رئيسة بلدية العاصمة باريس آن إيدالغو، وتتوزع توجهات الناخبين فيها بين اليمين واليسار، فمدينة نويي يمينية في مقابل مناطق اكثر ميولاً لليسار مثل سان دوني. 
وتلعب مدن ليون وليل دورًا محوريًا في حسم السباق الرئاسي، حيث أن لمدينة ليون نزعة إشتراكية، اما ليل فعمالية حاولت لوبين استمالتها ولم تفلح. 
في المقابل، نجد مدن الجنوب التي تعرف بأنها حاضنة كبيرة للتيار المتطرف كمدن تولون ونيس ومنطقة باكا بروفنس الب كوت دازور التي تعتبر مخزونًا انتخابيًا تقليديًا للتطرف اليميني. 

مسلمو فرنسا
يصوت اكثر من 44 مليون ناخب في الإنتخابات الرئاسية الفرنسية، بينهم مسلمو فرنسا، الذين أعطوا اصواتهم في الإنتخابات الرئاسية السابقة لهولاند. ودعا اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا الناخبين المسلمين إلى تصويت مفيد لعدم بعثرة اصواتهم.
يرى الحاج توهامي ابريز، مستشار رئيس اتحاد المنظمات الإسلامية، لـ "إيلاف"، أن مسلمي فرنسا يملكون قوة لو اعطوا أصواتهم بوعي إلى جهة واحدة، وللأسف في الدورة الأولى ستتشتت اصوات الناخبين المسلمين خصوصًا الشباب الذين لا يعون أهمية الصوت المفيد، ونحن ندعو الناس إلى أن يصوتوا الصوت المفيد كي لا يندموا في الدورة الثانية، ونرجو أن يعطوا اصواتهم للمرشح الوسطي ماكرون حتى نتفادى الأطراف المتطرفة في اقصى اليمين واليسار التي إن وصلت إلى الرئاسة فستربك فرنسا ومسيرتها الأوروبية والعالمية". 
ويقر ابريز بأن كثيرًا من الشباب المسلمين يرون ضالتهم في ميلانشون، "لكن هذا المرشح يفتقر إلى برنامج ومشروع واضحين، وربما يدخل فرنسا في مطبات كبيرة، واعتقد أن فيون لن ينال أصوات مسلمي فرنسا بعد أن هددهم وتوعدهم بحرب شمولية، نستثني منهم صوت الحركيين الذين كانوا يوالون فرنسا في أثناء استعمارها الجزائر، وبقوا أوفياء لليمين الجمهوري". 

مفاجأة ثالثة؟ 
لا شيء ينفي ولا شيء يؤكد، كما يقول ريمون، أن تمثل فرنسا المفاجأة الثالثة بعد بريكسيت وترامب. يتابع: "تظل الأبواب مفتوحة على احتمال ظهور التطرف من اليسار واليمين أو ظهور وسطية من نوع جديد، وليس الوسط الجديد التقليدي وإنما الوسط الجديد الذي يجمع اليمين واليسار ويجسده ماكرون".
إلى ذلك، تشهد التعاملات المالية في بورصة باريس تأرجحًا في ضوء غياب مرشح يتصدر السباق الرئاسي. 
يقول نخله زياد، الخبير المالي، ومؤسس موقع mostasmer.com، لـ "إيلاف": "إن المؤشر الأساسي لبورصة باريس يقفل هذا الأسبوع على أدنى بنقطتين من مستوياته الأخيرة، فهو وصل إلى 5142، وهو اعلى مستوى له منذ أسبوعين، كذلك يبدو أن الفارق بين سندات الخزينة ومثيلاتها الألمانية نزل من 72 نقطة إلى 60، كما أن اليورو استقر في تعاملاته مقابل الدولار، وهذا يدل على أن الأسواق المالية ليست في وضع توقع نتيجة سيئة".
يتابع: :اعتقد أن ما نشهده في فرنسا مشابه لما حدث قبيل البريكسيت في بريطانيا والانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، كانت الأسواق في بريطانيا مهيّأة لفوز النعم في الاستفاء، ووصل مستوى الأسترليني إلى أعلى مقدراته، لأنه كان متفائلًا بالبقاء في الاتحاد الأوروبي، وبالنسبة لترامب كان هناك استهزاء في الولايات المتحدة إزاء إمكانية فوز ترامب، وأرى أن ثبات بورصة باريس في تعاملاتها نابع من عقيدة انه حتى لو تأهلت لوبين مع ميلانشون إلى الدورة الثانية، فهناك عوائق دستورية ستمنعهما من تحقيق وعودهما الانتخابية إن فاز أحدهما".