إيلاف من بيروت: يتفق كثيرون على أن نمو اليمين المتطرف في أوروبا يضع اللاجئين هناك أمام مستقبل مجهول، ويُقلق العالم بشأن مستقبل الديمقراطية في القارة العجوز، خصوصًا أن الدعوات اليمينية تستظل الإسلاموفوبيا المستجدة بقوة لمعاداة الإسلام وطرد المهاجرين. إلا أن المثير للدهشة هو استمرار تدفق اللاجئين على دول أوروبا المتحولة يمينيًا، واستمرار الرغبة في ذلك.

فحين سألت "إيلاف" قراءها مستفتية: "بعد صعود حركات اليمين المتطرف في الغرب، أما زلت ترغب في الهجرة إلى دوله؟"، أتت النتائج حاسمة في اتجاه استمرار هذه الرغبة. فمن 889 قارئًا شاركوا في هذا الاستفتاء، صوّت 582 منهم بـ "نعم" (بنسبة 65 في المئة)، وصوّت 307 منهم بـ "لا" (بنسبة 35 في المئة).

ربما تستدعي هذه النتائج تبحرًا في سيكولوجيا اللجوء. فلِم يذهب لاجئ مسلم شرق أوسطي إلى بلد أوروبي يعرف تمامًا أن فيه من يرفضه، ومن يضيق عليه، ومن يستنّ القوانين لتحجيمه، ومن يراقبه في غدوه ورواحه؟

سيادة القانون

قد ينحصر الجواب في رأي واحد: سيادة القانون. فبلدان العالم العربي قاطبة نعمت بالاستقرار ردحًا من الزمان، لكن لم تكن خلفيات هذا الاستقرار طمأنينة، إنما كانت خشية من بطش "السلطة" وعصاها البوليسية. فإن أخذنا دول الربيع العربي أمثلة، لوجدنا أنها ما حصلت إلا في دول الحكم البوليسي التي يحبل تاريخها بالانقلابات العسكرية والقلاقل الحزبية والعصبيات المذهبية. وليس أدل على ذلك من قراءة التاريخ المصري، أو السوري، أو اليمني، أو التونسي.

ما كان الاستقرار في هذه البلدان إلا صنيعة "الأمن"، بينما رميت سيادة القانون تحت أقدام الفاسدين ومتسلقي سلالم السلطة والمنتفعين والأعوان وتجار الأديان. وهذا ما يهرب منه اللاجئ. فهذه العوامل كلها أشعلت في المجتمعات العربية نيران الحروب الضروس، منها ما سكن قليلًا، ومنها ما يأكل أخضر الناس ويابسهم.

واللاجئ يعرف أن القانون سيدٌ في أوروبا، وسيحفظ حقه المدني كمواطن، ولو وضعه قيد المراقبة بسبب الرهاب المستشري، ولو عامله معاملة المذنب حينًا، لكنه يعرف أن في ظل سيادة القانون، يأخذ كل ذي حق حقه، خصوصًا أنه آت هذه البلاد كي يعيش فيها، لا كي يعيث فيها فسادًا. أما الإرهابي فليحاسب على أفعاله.

الكرامة المصونة

إلى ذلك، عاش المواطن العربي في ما يسمى "دول الطوق" عيشة بل حياة، طالما أن الصراع العربي - الإسرائيلي كان الشعار الكبير الذي قمعت بحجته الحريات، على أساس أن "لا صوت يعلو على صوت المعركة"، وأن الديمقراطية والحرية مؤجلتان "لضرورات المرحلة". فالنظام العربي يجرّد المواطن من مواطنيته، والإعلامي من حريته، والكاتب من ريشته، لأن العرب في حالة حرب وجودية. لذلك، يفرّ المواطن إلى أي مكان، حتى إلى أوروبا الشعبوية القاسية اليوم، كي يستعيد نفسه المكتوم، وهو يعرف أن كرامة الإنسان - حتى المذنب - مصونة في ظل سيطرة المجتمعات المدنية على السلطات. من هنا ترتفع نسبة الراغبين في الذهاب إلى الديار الأوروبية على الرغم من كل أمر. فحتى لو وصل اليمن إلى الحكم، لن يكون مطلق اليدين ليفعل ما يشاء، في ظل نظام ديمقراطي فيه الحكم وفيه المعارضة التي تستطيع تجييش الرأي العام. ما حصل في بولندا أنموذج حي، حيث خرجت كل قطاعات المعارضة في تظاهرات يومية بأعداد كبيرة احتجاجًا على قوانين أراد سنّها اليمين ضد المهاجرين، ما أدى إلى كبح جماحه.

تهديد الديمقراطية

إلا أن النسبة المقابلة ليست بقليلة. وهذا يعني أن خطر وصول مارين لوبان إلى قصر الإليزيه، وبلوغ أترابها اليمنيين المتطرفين كراسي السلطة والقرار في الأقطار الأوروبية الأخرى، ترك في النفوس بعض الخوف، خصوصًا أن أخبار رسم الصلبان المعكوفة والشعارات المعادية للمسلمين والعرب على الجدران قد وصلت.

إلى ذلك، تتواتر الأنباء عن عمليات التحفظ والتفتيش والمداهمات والاعتقالات بين المهاجرين في فرنسا وبريطانيا بلجيكا وهولندا وألمانيا والدانمارك، وحتى السويد. لكن يتفق المراقبون على أن هذا لا يمكن أن يستمر، ومن هنا تنادي الأحزاب الفرنسية المختلفة مثلًا إلى صب أصواتها في صندوقة إيمانويل ماكرون، لقطع الطريق على مارين لوبان ومنع وصولها إلى الرئاسة الفرنسية.

فالأوروبيون يخشون فعليًا من أن تمادي اليمين المتطرف في ممارسات غير ديمقراطية وغير دستورية يُنتج فرصة لصدام مع حرية الممارسات الدينية وتقاليدها بين اللاجئين والسلطات، وبين اللاجئين أنفسهم، ما سيكون له انعكاسات سلبية وخطرة على اللاجئين والمهاجرين من جهة، وما ينذر بتهديد الديمقراطية الأوروبية برمتها.​