الصويرة: وحده السفر يمنحنا القدرة على معرفة قيمة المدن التي نقصدها أو تلك التي تركناها وراءنا. للمدن إيقاعات متباينة وروائح مختلفة، و"كل مدينة لا تُعرفُ من رائحتها لا يُعوَّل على ذكراها"، كما قال الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش، مشدداً على أن "المدن رائحة"، مشيراً إلى أن لـ"عكا رائحة اليود البحري والبهارات. حيفا رائحة الصنوبر والشراشف المجعلكة. موسكو رائحة الفودكا على الثلج. القاهرة رائحة المانجو والزنجبيل. بيروت رائحة الشمس والبحر والدخان والليمون. باريس رائحة الخبز الطازج والأجبان ومشتقات الفتنة. دمشق رائحة الياسمين والفواكه المجففة. تونس رائحة مسك الليل والملح. الرباط رائحة الحناء والبخور والعسل".

في السفر، من مدينة إلى أخرى، نعرف أن كل رائحة تتذكر رائحة أخرى. نكون، كما يشير درويش، في مؤلفه "في حضرة الغياب"، مع "رائحة متقطعة الأنفاس، عاطفيّة تقودك كخارطة سياحية كثيرة الاستعمال إلى رائحة المكان الأول. الرائحة ذاكرةٌ وغروب شمس. والغروب هنا توبيخ الجمال للغريب".

مدينة "كناوة"

للصويرة رائحة البحر ودفء كناوة وأصوات النوارس وحركة الرياح، الوصول إليها، يجعلك تقتنع بأنك نزلت أرضاً مختلفة، سيكون عليك أن تتعود على إيقاعها، هي المدينة التي تنام، في هدوء المدن الغارقة في ماضيها، التي راكمت، عبر تاريخها، أحداثاً ورجالاً، لم تجد إلا أن تصرف سيرتهم من خلال موسيقى "كناوة" المُحملة بثقل الأساطير والمعتقدات الموغلة في القدم، ومشحونة بالإرث الحضاري الأفريقي والأمازيغي والعربي، تناجي الأرواح الخفية وتغازلها، وتتوسل بالإيقاعات والألوان، وإحراق البخور، وكل الوسائط الخفية الأخرى، كما تتوسل آلات خاصة، مثل "الكَنبري" أو "السنتير (آلة وترية من ثلاثة حبال)"، و"الكنكة (الطبل)"، ثم "القراقش (صنوج حديدية).

وتحولت الصويرة، على مدى دورات "مهرجان كناوة وموسيقى العالم"، إلى وجهة لعدد كبير من مشاهير الموسيقى العالمية، من البلوز والجاز، مروراً بالريغي، وصولاً إلى الراي، بينهم يوسي ندور، وراندي ويستون، وجونالد هاريسون، وواين شورتير، ودانييل وارو، وتوماني دياباتي، ودابي توري، والشاب مامي، والشاب خالد، وعمر سوزا، وصولاً إلى لوكي بتيرسون وراي ليما.

وبنفس المستوى، وجد كبار فناني "كناوة"، أمثال الراحل محمود غينيا، أو عبد السلام عليكان وحميد القصري وعمر حياة وسعيد كويو ومحمد كويو وحسن يوسو ومصطفى باقبو وعبد الكبير مرشان وسعيد أوغسال وعزيز باقبو وعبد النبي الكداري وعلال السوداني ومختار غينيا، أنفسهم يخرجون من ظل التهميش إلى أضواء الشهرة ورحابة أكبر المسارح والمهرجانات العالمية.

انبعاث مدينة

إنها الصويرة، التي لا يسعى مهرجانها، إلى الحفاظ على تقاليد أسطورية أو إعادة إحيائها؛ بل إنه، كما قال الباحث محمد الطوزي، "مهرجان حديث في مدينة كانت بذاتها سباقة إلى إدخال أشكال الحداثة ضمن المملكة الشريفة. وهي حداثة عمرانية لأن المدينة لا تشبه بأي حال من الأحوال مدن العالم الإسلامي، حيث أن رمزها الوراثي اعتمد التناظر والحجر المقدد ومنازل بشرفات وساحات عمومية. هذه الأخيرة، هي، اليوم، منصات المهرجان. وهي كذلك حداثة اقتصادية، لأن المغرب أقام فيها محور مبادلاته مع الغرب (المحاسبة، الصرف، الجمارك). وهي أخيراً حداثة سوسيولوجية، لأن الصويرة منذ نشأتها كانت جيباً فريداً بفضل حداثة تعميرها، في ظل مجتمع مغربي قبلي. عند تأسيسها، عمل الملك العلوي سيدي محمد بن عبد الله على تعمير موكادور بساكنة مختلطة ضمت اليهود بأعداد وافرة وسكانها من جنوب المغرب. وبهذا الصدد، كتب لابساد: إن البنية الديمغرافية للمدينة ليست بنية قبلية، حيث تتكون ساكنتها من خليط من الانتماءات القبلية أُضيفت إليها عناصر سكانية أخرى، مثل اليهود والزنوج"، وانضاف إليهما اليوم أوروبيون يسعون إلى جودة عيش بأقل تكلفة، سواء كانوا في حالة انتجاع عبر إرساء مآويهم المتنقلة في موقف السيارات قبالة المحيط لبضعة أشهر، أو كانوا مقيمين دائمين في منطقة الشياظمة النائية".

من أجواء "مهرجان كناوة وموسيقى العالم" في دروته الـ20

ينتهي الطوزي إلى أن الصويرة قد "تمكنت من تحقيق انبعاث، بحثاً عن الكونية دون التنكر للجذور، بفضل ناشطين استطاعوا إعادة خلقها من خلال الرهان على الثقافة"، منتهياً إلى أن المهرجان "لم يعد فقط نشيداً للحرية والحميمية والكونية والأخوة ... ولا مجرد ذاكرة فاعلة وفضاء للخلق والإبداع الثقافي فحسب، بل أصبح تحدياً للفهم السائد: حضور ما يزيد على 300 ألف شخص من مختلف الأعمار والمستويات الاجتماعية في احتفال طيلة ثلاثة أيام، بنسبة قياس درجة الأمن (عون أمني/عدد رواد المهرجان) الأكثر انخفاضاً في العالم، وطاقة إيجابية تجعل جدران الصويرة ترد صدى الأنغام وتسحر الموسيقيين وعشاق الموسيقى".

في انتظار السهرات

في انتظار السهرات، التي تنطلق في الساعة السابعة، يقتل جمهور المهرجان وقته في التجول بين الأزقة وإبداع طرق خاصة لتنشيط فني يفتح باباً للتعارف بين زوار من مختلف الجنسيات، يبدون غير مبالين بالتباين الحاصل على مستوى اللباس واللسان. وحده الكورنيش، الممتد على طول شاطئ المدينة، يوحد زوار المدينة وناسها، فيقصدونه للتمشي أو التأمل في زرقة البحر ومتابعة مشهد غروب الشمس، بينما أبصارهم تحدق في ظلمات المحيط، كما لو أنهم يستعيدون حكاية السلطان العلوي، سيدي محمد بن عبد الله، الذي رسم "مدينة الرياح"، قبل نحو ثلاثة قرون، متجهة نحو البحر والغرب، لكن بأسوار وأبواب متجذرة في يابسة المغرب وتربة أفريقيا، قبل أن تستقبلهم منصات السهرات، حيث يتقاسمون لحظات الاستمتاع بموسيقى أصيلة وروحانية، تذكر بالعمق الأفريقي للمدينة والبلد.

دينامية اقتصادية

يعطي أصحاب المقاهي والمطاعم، لزوار المدينة، المتحلقين حول كؤوس الشاي ووجبات الأكل، انطباعاً بأنهم يتمنون لو أن أيام السنة كلها مهرجان، حتى تتواصل دينامية الرواج الاقتصادي. حين يعرف الزائر أن البرنامج السنوي للمدينة يحفل بعدد كبير من المهرجانات الثقافية، ذات الصيت الدولي، تتوزعها أكثر أشهر السنة، سيفهم لماذا يؤمن كثير من الفاعلين بالمدينة والبلد بإمكانية أن تصير الثقافة رافعة للتنمية المحلية.