عبد الجبار العتابي من بغداد: على الرغم من مرور 59 عامًا على ثورة 14 يوليو التي اسقطت النظام الملكي واعلنت الجمهورية، الا ان العراقيين ما زالوا يتجادلون فيها ما بين مؤيد لها يراها ثورة شعبية، وبين رافض لها تماماً، ومعتبرًا اياها سبب البلاء والخراب الذي حل بالعراق بسبب ما تعرضت له العائلة المالكة من قتل غير مبرر.

ومع حلول الذكرى التاسعة والخمسين لثورة 14 يوليو 1958 في العراق اليوم الجمعة، يتصاعد الجدل بين العراقيين حولها، فترتفع في فضاءات الاختلافات صورة قائدها الزعيم عبد الكريم قاسم (1914 – 1963) وصورة ملك العراق فيصل الثاني، الذي تم قتله مع العائلة المالكة التي ابيدت وقتل معها العديد من الشخصيات وسحلت بعض الجثث ومثل بها تمثيلاً شنيعًا.

هناك من يحتفل بالمناسبة افضل احتفال ويستذكر الزعيم باعتباره "القائد الافضل في تاريخ العراق المعاصر"، فيما يستذكر البعض الملك وعائلته ورئيس الوزراء نوري السعيد بالدموع والاسى، وتتقاطع وجهات النظر كثيرًا في اذا ما كان ما حدث (ثورة) او (انقلاباً)، فهناك من يرى أنها فتحت ابواب الجحيم امام العراقيين الى حد الآن، وان يوم 14 يوليو &1958 يؤرخُ بداية الرعونة السياسية والإنقلابات والدمار في العراق، وان من بعد ولادة الجمهورية جاء الرعاع ودمروا العراق، فيما يرى البعض انها ثورة الشعب الفقير والخلاص من الملكية بالتحول الى الجمهورية، على الرغم من أن الكثيرين يتفقون ان لا أحد يشك في وطنية عبد الكريم قاسم، ولا أحد يشك في نواياه، ولكن الطريق إلى جهنم مفروش أحياناً بالنوايا الحسنة، على حد تعبير البعض.

وازاء كل هذه الخلافات ووجهات النظر، يتساءل البعض في عراق اليوم: ماذا كان سيحدث لو بقيت المملكة العراقية ولم يأتِ كل هذا العسكر؟

أنزه الحكام

يقول عبدالله فاضل، متقاعد 74 عامًا: "أشرف قائد حكم العراق هو عبد الكريم قاسم، وكل من يقول هذا فهو حاقد وينتمي الى الاحزاب التي وقفت بالضد منه، بعد اعلان الجمهورية عام 1958 كل شيء في العراق تحسن من الخدمات الصحية الى التعليمية الى الصناعة الوطنية التي تطورت &واعطيك معلومة ربما لا يعرفها الكثيرون، وهي أنه من يوليو&58 إلى يوليو&1959 لم تسجل مراكز الشرطة أي حادث جنائي في عموم العراق".

عبد الكريم قاسم

يضيف: "كريم كان كريمًا مع الشعب العراقي لذلك احبَه وفداه بروحه عندما حدث انقلاب فبراير&1963، لم نرَ سابقًا ولم نرَ بعده من يملك نزاهته، أنا كمواطن عاش تلك المراحل استغرب من الذين يقولون إن الحكم الملكي في العراق حكم ديمقراطي، كيف هذا واكثر من نصف العراقيين يداسون بأقدام الإقطاع، ورجال القوى الوطنية مليانة &بهم السجون".

بداية الخراب؟

يقول هادي جلو مرعي، وهو صحافي ومدير المرصد العراقي للحريات الصحفية، إن &ثورة 14 يوليو&كانت بداية الخراب والنزيف العراقي: "لان انقلاب العسكر هذا كان في وقت بدا العراق يشق طريقه نحو نهضة عمرانية واقتصادية، وكان هناك تمثيل برلماني واضح وصحافة وتعددية، لكن للاسف فإن ضباطاً مارقين دمروا كل شيء وسلمونا الى الفوضى والحروب والحصارات والدمار".

يضيف: "نعم ثورة 14 يوليو&كانت بداية الخراب والنزيف العراقي المستمر الى الان، وقد جاءت في وقت كانت العلاقة مع الغرب نموذجية، وبسببها دخل العراق في عزلة قاتلة منذ اكثر من خمسين&عامًا".

وسعت من رقعة الطبقة الوسطى

اما الكاتبة سلوى زكو، فتقول: "في حدود معلوماتي لا توجد لدينا دراسة علمية منهجية تبحث في اثر ثورة يوليو&على المجتمع العراقي. هناك مؤلفات عدة (وصفية) بمعنى انها تصف الحدث وتتتبع مساره والصراعات التي احتدمت بين ابطاله لكنها لا تلامس الجانب الاهم وهو تأثيرها الممتد في المجتمع، والذي حولها من انقلاب عسكري الى ثورة".

تضيف: "أزعم ان الثورة وسّعت من رقعة الطبقة الوسطى فنقلت شرائح مجتمعية من الفقر المدقع الى الطبقة الوسطى الدنيا وما بعدها وذلك بفعل التعليم وفرص العمل التي اتيحت في جهاز الدولة على وجه الخصوص، هذا ما يفسر لنا انتعاش مظاهر الحياة المدنية خاصة في مراكز المدن وازدهار الاداب والفنون في ستينات وسبعينات القرن الماضي. هناك تساؤلات عدة لم يجب عليها احد منها هذا السؤال الذي يتردد، هل فتح يوليو&هذا بوابة الجحيم على العراق؟ ام ان الجحيم كان موجودًا وكانت البوابة ستفتح سواء عن طريق يوليو&أم غيره؟

قاسم... مسكين

يقول الكاتب والباحث كريم البصري: "مسكين عبدالكريم قاسم ورفاقه رحمهم الله، لقد تآمر عليهم الشرق والغرب العدو والصديق فقط لانهم وطنيون ونزيهون وزاهدون، كان الشهيد عبدالكريم قاسم معجبًا بتجربة مصطفى أتاتورك حيث كان يعتقد ان الشعب العراقي يجب ان يصهر في بوتقة&واحدة لتكوين أمة عراقية، هذا المشروع الذي جعل من الملا مصطفى بارزاني يتآمر عليه بالخفاء، لان هذا الاخير منذ البداية كان يتمنى عراقًا ضعيفًا هزيلاً كي يغتنم فرصته ويحقق الاستقلال".

يضيف: "من خلال متابعتي لشواهد تأريخية اكتشفت أنه حتى قيادة الحزب الشيوعي العراقي نفسها قد تآمرت عليه هي الاخرى بالسر، لعل البعض سيستهجن هذه الفكرة&لما قدمه الحزب بعد الإنقلاب الأسود وخسرانه لموقع ريادي مهم بالمجتمع في فترة الثورة، لكن الحقيقة للأسف هكذا، الحزب الشيوعي العراقي بعد مرحلة فهد ورفاقه تحول الى قيادة كردية بحيث هناك هوة بين ما تبتغيه القيادة والقاعدة، لكن القيادة كانت تستخدم مبدأ نفذ ثم ناقش هذا المبدأ الديكتاتوري الذي أصمت القاعدة سنوات&طويلة وجعلها منفذه فقط، قيادة الحزب الشيوعي العراقي كانت ذات ميول قومية كردية وقد صرح عزيز محمد آخر حياته بهذا، لكن هذه القيادة كانت تتبع مبدأ التقية لدرجة أن المهداوي نفسه من القيادة لكنه لا يعلم نواياهم".

ثورة حقيقية

من جانبه، قال جرجيس كوليزاده، وهو كاتب صحافي: "ثورة 14 يوليو&قامت في ظروف سياسية اقليمية ودولية معقدة، من أهمها الحرب الباردة، والحرب بين الفكر الشيوعي الماركسي بقيادة المعسكر الشرقي والفكر الرأسمالي بقيادة المعسكر الغربي، وكانت الحرب بين هذين المعسكرين شرسة وتدور بالوكالة في مناطق كثيرة، وظهور الحركات الشيوعية كان يجابه بالرفض في كثير من بلدان العالم ومنها العراق في الخمسينيات".

واضاف: "عندما قامت ثورة الزعيم عبدالكريم قاسم (الوطني العراقي الزاهد) تم القضاء على النفوذ البريطاني في المنطقة وفي المقابل برزت الحركة الشيوعية وسيطرت على الساحة الجماهيرية، وتحول الاكتساح الشعبي للشيوعيين الى مصدر قلق وخوف لدى المخابرات والشركات النفطية الغربية، ولضرب الامتداد الشيوعي في العراق وفي المنطقة قامت المراكز الغربية المعنية بدعم الحركات العربية باتجاهين الاول قومي والثاني ديني لمحابهة المد الشيوعي حتى ولو بالعنف والارهاب، ونتيجة هذا الوضع السياسي المتصارع وقعت ثورة قاسم بين مطرقة الحركات القومية وسندان الحركات الشيوعية، وبالاخير تمكنت الحركتان القومية والدينية بدعم وتمويل&من الغرب من وقف المد الشيوعي وضربه والاطاحة بالزعيم وثورته، التي التمت عليها الاغلبية الكاسحة من الفقراء والمحتاجين وكانت عوناً لهم في توفير مستلزماتهم وحاجاتهم الحياتية".

وتابع: "الثورة حملت اول اصلاح للاراضي الزراعية وتوزيعها على الفلاحين المنتجين، ولهذا تحسب صحوة قاسم في 14 يوليو&كثورة حقيقية ولكن انقضت عليها الصراعات الدولية في المنطقة فنتج عنها عراق&متأزم&ومضطرب&طوال عقود، ومازال العراقيون يدفعون ثمن وضريبة هذا التدخل الدولي في القضاء على الثورة القاسمية".

ثورة مصطنعة

أما المفكر العراقي ميثم الجنابي فقال: "إن ما حدث يوم الرابع عشر من يوليو&عام 1958 في العراق هو انقلاب عسكري، تحول لاحقاً بفعل احتقان الحياة السياسية وضغط الإيديولوجيات الراديكالية الى "ثورة". بعبارة أخرى، إنها "ثورة مصطنعة". وهي نتيجة نعثر عليها في الطابع المصطنع لكل ما جاء بعدها وحتى الآن".

يضيف: "إن الخطأ التاريخي لانقلاب الرابع عشر من يوليو&هو عين خطيئته السياسية. وسبب ذلك يقوم في أنه أسبغ الشرعية على إمكانية الانقلاب العسكري وتدخل الجيش المباشر في شؤون الحياة السياسية والمدنية وتحكمه فيهما! وهو مؤشر على ضعف الدولة والمجتمع والنخب السياسية. وحالما جرى رفعه إلى مصاف "المقدس"، فإن النتيجة الملازمة هي تقديس بواعث الخراب والتخريب. لقد أدى انقلاب الرابع عشر من يوليو&إلى جعل المؤامرة والمغامرة السياسية لحفنة من الحزبيين الجهلة ومحبي الجاه والسلطة ولاحقاً الإجرام والسرقة، أمرًا عاديًا! وأصبح تاريخ العراق بعدها سلسلة متصلة من الانقلابات والجريمة السافرة والمستترة".

واشار الى ان النتيجة كانت انعدام الاستقرار والأمن والتراكم الضروري للمعرفة والاحتراف والكفاءة. فقد وضعت وأسست لإمكانية الخروج على كل شيء، ورفعته إلى مصاف الممارسة الشرعية. من هنا "شرعية الثورة" وما شابه ذلك من صيغ لا علاقة لها بالشرع والحقوق، باستثناء تحويل غريزة السلطة المتحكمة في نوعية الأحزاب السياسية العراقية إلى "حق شرعي". وهي طريقة أدت، كما تكشف عن نتائجها تجارب الأمم الحديثة جميعًا، والعراق بشكل خاص، إلى الغوص في أوحال الدكتاتورية والتخلف والانحطاط"، على حدّ تعبيره.