الرباط: وصلت نسبة المغاربة الذين أجابوا على سؤال استطلاع "إيلاف المغرب" بخصوص تشجيع بلادهم للبحث العلمي إلى اكثر من تسعين بالمائة؛ نفوا أن تكون الدولة تقوم بواجبها حيال هذا المرفق الأساسي، وهو شرط تقدم المجتمعات، إن على الصعيد الفكري أو الاجتماعي والاقتصادي.

وربطت "إيلاف المغرب" السؤال بنجاعة البحث العلمي في استباق الأزمات والتوترات المجتمعية قبل وقوعها، للاستعداد لها بما يلزم من الإجراءات والتدابير الوقائية.

وتعني الإجابات المرتفعة بالنفي، عدة أمور، بينها أن الساحة الفكرية في المغرب، تشكو من نقص حاد في تشجيع البحث العلمي، سواء في الكليات والمعاهد العليا، وكذلك في مراكز البحث المتخصصة النظرية والتطبيقية.

وتوجد دلائل كثيرة على هذا النقص، اذ تكفي الإشارة الى أن المتفوقين المغاربة في العلوم البحتة والتطبيقية، إنما يحققون طموحهم العلمي خارج بلادهم، حيث تحتضنهم مراكز البحث المتقدمة، بما فيها من شروط بيئة علمية محفزة على الانخراط في مجتمع المعرفة الذي تشجعه الجهات المستفيدة من نتائج البحث العلمي المتطورة، من مؤسسات اقتصادية وشركات عملاقة تتلقف نتائج الابتكارات العلمية لاستثمارها في منتوجاتها.

أما الصنف الثاني من المغاربة المتفوقين، فإنهم يحققون نتائج ممتازة بصفة فردية، إما عن طريق الصدفة والعصامية أو مغالبة الصعاب بمفردهم.

وتوحي أجوبة المشاركين في استفتاء "إيلاف المغرب" أن البحث العلمي الذي ينشده المغاربة، ذو هدفين : نفعي وتطبيقي عاجل، بينما يتجلى الهدف الثاني في رغبة الباحثين الانخراط في مجتمع المعرفة، للاستفادة المتبادلة من إنجازات زملائهم العلماء والباحثين.

ويمكن القول إن النمطين ضعيفان في المغرب. فالأبحاث الاجتماعية محصورة في نطاق ضيق لا يشمل الظواهر والازمات المجتمعية الجديرة بالعلاج والتقصي والمسح الميداني، قبل انفجارها في صورة احتقان يصعب التحكم في تداعياته وشراراته المتطايرة.

إن احتجاج بعض المناطق في الريف، على سبيل المثال، في المدة الاخيرة، دليل على غياب الوسائط العلمية الشفافة بين السلطات الإدارية والساكنة المحلية، تتمثل في غياب معطيات موضوعية عن طبيعة الآليات والروابط المجتمعية التي تتحكم في منطقة هامشية، لا تعرف كيف تتشكل علاقة سكانها بالسلطة المحلية والمركزية؟"، وما هي نظرتهم إلى النظام الديمقراطي الذي تبنته بلادهم ؟ وما موقفهم من نظام الجهوية واللامركزية؟، وهل يحسون أن ذلك النظام سيغيّر حياتهم ويقترح حلولاً لمشاكلهم ؟

هذه نماذج من الأسئلة الكفيلة بتعرية ما يدور في قاع وباطن المجتمع، ليس في الريف وحده وإنمائية باقي جهات المغرب.

وتوجد طائفة من النخب المغربية، يعتقدون عن حق أو باطل، أن السلطة في بلادهم، تتوجس من الأبحاث الميدانية المجتمعية، لانها قد تفضح سياساتها وتعري آليات اشتغالها، وبالتالي ستمكن معرفتها خصومها السياسيين، من أدوات لمحاربتها وضربها في الصميم.

ويتساءل المنتقدون في هذا الصدد ، لماذا أقفلت الدولة في منتصف ستينيات القرن الماضي "معهد العلوم الاجتماعية" بالرباط، وكان يديره الباحث السوسيولوجي الراحل عبد الكبير الخطيبي، بمبرر أنه ورش لتكوين المعارضين يمكنهم من معرفة اسرارالمجتمع للمطالبة بتغييره.

ورغم أن تخصص "السوسيولوجيا" قائم حاليًا في أغلب كليات الآداب في المغرب، غير ان تأثيره ضعيف جدًا بالنظر الى تكوين الطلاب فيه يعتمد على الجانب النظري بينما الميداني يتطلب دعمًا لوجيستيًا لا يتوفر في كل شعب علم الاجتماع بالجامعات المغربية.

ومن المفارقات أن المؤسسات الأجنبية هي التي تدعم بتمويل سخي، الأبحاث الميدانية لتقصي الظواهر الخاصة التي تحفل بها الحياة العامة في بلد يعيش طورًا انتقاليًا وتحولاً يطبعه الصراع بين القديم والحديث، ولكل منهما أنصار ومعارضون في المجتمع.

في هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن البحث العلمي، بما فيه الميداني، الذي يرصد المتغيرات المجتمعية لتحديد أسباب التوتر والغضب الشعبي لوضع حد للاحتقان.

هذا الصنف من البحث لا يعطي كل النتائج المتوخاة ما لم يستند الباحث إلى معطيات وبيانات موضوعية من طرف الدولة ومؤسساتها ذات الصلة لتتضح الطريق أمام الباحث.

وفي هذا الصدد، لا توجد إلا مؤسسة واحدة للتخطيط تمد وسائل الإعلام بين الفينة والأخرى، ببيانات عن مؤشر المعيشة ومعدل النمو والتضخم وانتشار البطالة والنمو الديموغرافي للمغرب.

ولا يثق الباحثون دائمًا بالمعلومات التي قد يحصلون عليها من هيئة التخطيط، لذلك يستأنسون بها فقط. وهو احتياط منهجي مبرر، كون جهاز التخطيط مؤسسة حكومية، مهمتها اجراء أبحاث واستطلاعات بغاية الإجابة عن أسئلة يطرحها الفاعل الحكومي.

وإذا كانت هذه النسبة المرتفعة من المغاربة، لا يحسون بتأثير البحث العلمي في تغيير نمط حياتهم، يقيهم وبلدهم من عواقب الأزمات والتوترات المباغت ، فكيف تتصرف الدولة حيال هذه المعضلة؟

الحقيقة أن هذا السؤال يرتبط بمنظومة التعليم في المغرب، والبحث العلمي مكون أساسي فيها؛ فغيابه أو ضعفه يفاقم الأزمة التعليمية.

نعم، يتوفر المغرب على وزارة للتعليم العالي من مهامها تنشيط وتدبير قطاع البحث العلمي، كما توجد مؤسسة وطنية تعنى بتنسيق هذا النشاط المعرفي في المغرب ؛ إلا أن كل ذلك، وحسب نتائج الاستطلاع، غير كافٍ ما لم تتوفر الدولة على إستراتيجية للبحث العلمي ، بأهداف مشخصة ومرقمة، يستوجب تنفيذها موارد مالية وبشرية؛ وإلا فإن الوضع سيظل على ما هو عليه.

وهذه الملاحظة لا تعني خلو المغرب من الكفاءات العلمية المؤهلة، فهي متوفرة حقًا ولكنها إما معطلة محبوسة في وظائف بيروقراطية، أو تصارع الزمن في مختبرات تفتقد اجواء ولوازم البحث العلمي النافع للمجتمع.

لا بد من توجيه النقد إلى القطاع الخاص، فهو لا يشجع البحث العلمي، عكس المجتمعات المتقدمة؛ رغم انه يراكم الأموال ويستفيد من نتائج الأبحاث العلمية. وبعبارة أقوى دلالة "البحث العلمي هو قضية أي مجتمع برمته".