الرباط: يصعب الجزم بعد انصرام حوالي ثلاثة عقود على انسحاب المغرب من منظمة الوحدة الأفريقية بأن القرار كان يومئذ خاطئا أو صائبا، متسرعا أم تم اعتماده بعد تشاور وتأمل عميق. بعبارة أخرى هل كان نتيجة اجماع وطني، شارك في بلورته الفاعلون السياسيون؟

الانسحاب شكل مرحلة منتهية بحسناتها وسيئاتها، وبسياقاتها الدولية والإقليمية، قادت في حينها الملك الراحل الحسن الثاني، إلى اتخاذ قرار لم يكن سهلا لا عليه ولا على المغاربة؛ لأنه شكل إيذانا بدخول نزاع الصحراء منعطفا عسكريا ودبلوماسيا فارقا، أدى إلى ما أدى إليه من نتائج وتداعيات وصراعات خاضها المغرب في عدد من الواجهات؛ دفاعا عن الشرعية القانونية التي خرقتها، من وجهة نظره، منظمة الوحدة الأفريقية، وهو أحد مؤسسيها التاريخيين والداعمين لها لغاية تخليه عن عضويته فيها.

منحت المنظمة العضوية الكاملة لكيان لا يتوفر على ابسط مقومات الدولة، بالمحددات المتعارف عليها في القانون الدولي. كيان مصطنع أسس تحت مخيمات حارقة بوهج الشمس، نصبت فوق أرض أجنبية (الجزائر) لا يتمتع المقيمون المحتجزون فيها، من اقتيدوا عنوة للعيش تحت الخيام؛ بوضعية حقوقية محددة: فلا هم لاجؤون إنسانيون بالمعنى المتداول في المنظمات ذات الصلة، تسري عليهم قوانين اللجوء الإنساني؛ ولا هم مواطنون كاملو الحقوق المدنية، يمكنهم التحرك بحرية حيثما يريدون بوثائق سفر معترف بها.

لاجئون والمغرب يسميهم "محتجزين" أوهمتهم منظمة مسلحة ذات عقيدة إيديولوجية تتبع أوامرالخارج؛ أنهم في ظل بحبوحة جمهورية ثورية كاملة السيادة، هي بذات الوقت حركة تحرير تقاتل بالسلاح ضد من تصفه ب"المحتل المغربي" وعضو في منظمة قارية؟ 

كان من الطبيعي أن تسأل "إيلاف المغرب" قراءها ومتصفحيها وقد استعادت المملكة المغربية أخيرا مقعدها في حاضرة الاتحاد الإفريقي، الوريث القانوني لمنظمة الوحدة الأفريقية عن النازلة.

سألتهم إن كانوا يعتبرون قرار العودة استراتيجيا، يعكس تعاطيا جديدا موضوعيا وعقلانيا مع الملف، يستثمر لصالحه المتغيرات السياسية الإقليمية والدولية؟

تجدر الإشارة في هذا الصدد، إلى أن دولا كثيرة شجعت الرباط على محاولة السير في النهج الجديد، اعتقادا منها أن مقاومة الخصوم في عقر دار المنظمة وخوض المعركة الدبلوماسية بين أروقة مقرها من داخل أجهزتها؛ أنجع من ترك موقع ومقعد الدفاع فارغا، ما يتيح لجبهة البوليساريو الاستمرار في ابتكار وإنتاج وترويج الأساطير السياسية وتقديم المغرب كداعية للحرب، معارض للشرعية الدولية.

قرار العودة سانده المستطلعون بأكثر من 75 في المائة. اعتبروه اختيارا سياسيا صائبا ودليلا على تطور نوعي في مقاربة المغرب لملف قضيته الوطنية الأولى.

يشير القرار المغربي كذلك إلى وعي عدد من القادة الأفارقة بخلفيات وجذور نزاع الصحراء المغربية، المعروض على الأمم المتحدة منذ 1991.

تبنت المقاربة المغربية، أو المعركة طويلة النفس التي خاضها المغرب، أسلوب العقلانية والبراغماتية، ايدها أفارقة من دعاة السلم والوفاق في القارة.

ما شجعهم على المضي في مساعي الصلح أن المغرب لم يقطع الصلات بالقارة السمراء، بل شهد التعاون الثنائي والمتعدد معها، وخاصة في العقود الأخيرة، معدلات مرتفعة، على كافة الأصعدة. 

الأجواء الديموقراطية الجديدة التي أحيت الآمال في مستقبل القارة، دفعت الى الواجهة قادة وصلواإلى السلطة بواسطة الاقتراع الحر؛ وبالتالي فإنهم متمتعون بمصداقية واحترام في المحافل الدولية. دعوا جميعهم، كل بأسلوبه وعلاقاته بالأطراف، إلى معالجة الأزمة عبر الحوار والتفاوض بما من شأنه أن يفضي إلى تسوية سلمية تخمد نار أزمة باتت مزمنة معرقلة للتعاون الإقليمي والقاري. 

في نفس السياق، تبين لزعماء وقادة أفارقة أن المتصارعين الأساسيين إثنان وهما الجاران: المغرب والجزائر. دولتان وازنتان، لكل منهما صداقات وارتباطات وتحالفات سواء مع الأفارقة، أو سواهم من القوى الدولية المؤثرة.

ومن هنا يجوز القول بوجود شعور بالرضى والارتياح يتقاسمه المغاربة وتؤكده نتيجة هذا الاستطلاع، فضلا عن مؤشرات أخرى مفادها أن قرار العودة، كان صعبا بل محفوفا بمخاطر، بالنظر لطبيعة الخصم وأساليبه في المناورةونجاحه خلال مدة ، في استعداء حكومات افريقية ضد المغرب.

ويبدو أنه لا يوجد إحساس بالندم في المغرب، سواء عند صانع القرار السياسي أو مجمل الفاعلين المجتمعيين.

الأكثرية تثق في غيرة الماسك بالملف والناس يعتقدون أن كفة المكاسب أرجح من الخسائر بل تساورهم القناعة أن بلادهم انتقلت من مرحلة الجهاد الأصغر إلى الأكبر، وأصبحت المعركة مفتوحة وجها لوجه بين أصحاب الحق التاريخي وبين من يصفونهم ب "الانفصاليين" ليس في المنتظم الإفريقي بل في الواجهات الدولية الأخرى.

لقد تريث المغرب في اتخاذ قراره المسؤول حتى نضجت ظروف وبرزت مستجدات ومعطيات مشجعة، جعلت مشروع العودة بشرف، ممكنا ونافعا له.

في طليعة المستجدات الجهد الدبلوماسي المكثف الذي قامت به الرباط ودون كلل، في شخص عاهلها في اتجاه الأصدقاء والمترددين والواقفين على الحياد. جرى التخاطب بوسيلة وبأخرى، مع من كانوا يصنفون أعداء الوحدة الترابية للمغرب وناصبوه العداء في مناسبات.

لكن الملك محمد السادس، بوثبته المقدامة، بعثر الأوراق التي راهنت عليها جبهة البوليساريو التي كانت تعتقد أن الرباط ستظل مترددة لكن العاهل المغربي تمرد على قواعد الدبلوماسية التقليديةوالمفاوضات المكوكية، فلقي قراره الإعجاب، لما اتسم به من جرأة وإقدام؛ فكان طبيعيا أن يكون اللقاء مع الأشقاء حارا والترحيب جماعيا باستعادة بلاده مكانها الطبيعي في القمة الأخيرة بالعاصمة الأثيوبية.

ليس المجال مناسبا لاستعراض فصول واطوار معارك الدبلوماسية المغربية في الخفاء والعلن؛ لكن لا يمكن المرور على "ضربة المعلم" المتجلية في الخطاب المفعم بالإنسانية وبالحس السياسي العالي الذي القاه الملك محمد السادس، وسط تصفيق وترحيب غير مسبوق في القمم الأفريقية بالعاصمة الأثيوبية.

تحمل ملك المغرب مسؤولية التخلص من إرث ثقيل وافق مسدود، فانفتح المجال على افاق سياسيةرحبة ومغايرة في صيغة مبادرات ومقارباتدبلوماسية ونجح الملك في نقل المعركة إلى مربع الخصم. 

ويمكن القول إنه بعد مضي أشهر على استئناف المغرب نشاطه في حظيرة الاتحاد الافريقي، بدأ يجني بعض المكاسب الإيجابية. ربما لا ترضيه كلية ولكنها تؤكد انه لم يخطئ الطريق ولا مجال للتراجع.

في الطرف الأخر، بات الوضع مختلفا. ضعف ضجيج جبهة البوليساريو الإعلامي ولم يعد يملأ الآذان والساحات، وأطروحة الانفصال بات النظر إليها بمنظار التساؤل والريبة. كما أن الدولالداعمة بحرارة في الماضي، بدأت تسحب يدها بهدوء من مستنقع مخيمات “تندوف".

وبدوره انفتح المغرب بعد قطيعة دامت عقودا، على دول أبدت رغبة في بناء علاقات تعاون مصلحي باعتبارها الأسلوب الأمثل لتذويب الخلافات المستعصية. مثال "كوبا" التي تم التطبيع بينها ومع المغرب، غني بالرسائل السياسية. 

من جهة أخرى، كشف استطلاع "إيلاف المغرب" أن اكثر من 15 في المائة من المستجوبين، لا يشاطرون الموقف الذي اختارته بلادهم، لأن العودةوالجلوس إلى جانب "البوليساريو “تساوي في اعتقادهم اعترافا بجمهورية تندوف. صحيح أنهم لايعارضون العودة تماما، لكنهم يعتقدون أنها كانت ضربا من المخاطرة رغم ثقتهم في سلامة موقف الدولة المغربية واحتياطها لكل الاحتمالات والعودة لا تعني التفريط في الوحدة الترابية للمملكة. إضافة إلى العينتين السابقتين، لم يدل حوالي اكثر من سبعة في المائة من المستطلعين بجواب قاطع في الموضوع، مفضلين الإجابة ب"لا أدري" وهي نسبة يمكن اقتسامها بالتساوي بين المؤيدين لصيغة السؤال والمتحفظين عليه.

أكيد أن معركة المغرب من أجل إنهاء نزاع الصحراء لم تنته بعد، لكنه غيّر وطوّر أسلحته الدبلوماسية وصارت أكثر نجاعة، بينما يعيش خصومه حالة تيه سياسي، فقد اختلطت عليهم السبل بين كثبان الرمال المتحركة في الصحراء، لا يدرون اية وجهة يقصدون. لكن استمرار الحذر من جانب المغرب واجب في كل الأحوال.