د. عودة أبو ردينة: ما بين أزمتي الصواريخ الكوبية في عام 1968 والصواريخ الكورية الشمالية في عام 2017 الكثير من المتشابها، إلا أن العصر مختلف، واللاعبون السياسيون فيه مختلفون، وهذا ما يدعو إلى الخوف أكثر فأكثر.

قارن سيبستيان غوركا، مستشار البيت الأبيض لشؤون مكافحة الارهاب، الأزمة الحالية مع كوريا الشمالية بأزمة الصواريخ الكوبية في عام 1962، داعيًا الأميركيين إلى الوقوف مع رئيسهم دونالد ترمب، كما وقفوا مع الرئيس جون كندي حينذاك. 

تقول بيغي نونان، الجمهورية التي كانت مقربة من الرئيس الأميركي الراحل رونالد ريغان ومن وزير الخارجية الأسبق جايمس بايكر وكانت من المعجبين بالرئيس الراحل جون كينيدي، إن مراقبين يرون أن المواجهة الكلامية مع كوريا الشمالية اليوم لا تشترك بأوجه شبه مع ما حدث في عام 1962 إلا بكلمة "أزمة". فعالم ستينيات القرن الماضي كان عصرًا مختلفًا بلاعبين مختلفين وقوى محركة شديدة الاختلاف. قالت نونان، ولها كتب عدة في السياسة والدين والثقافة وعمود أسبوعي في صحيفة وول ستريت جورنال، إننا نعود إلى الماضي لإسناد وجهات نظرنا، "لكن استحضار غوركا الأزمة الكوبية من أجل حشد التأييد السياسي رخيص فكريًا ويُهزم نفسه بنفسه". 

لم يطلق الكلام على عواهنه 
كان الاتحاد السوفياتي وكوبا يحاولان إخفاء الصواريخ الهجومية التي وضعها السوفيات سرًا في الأراضي الكوبية. أما الزعيم الكوري الشمالي فانه يستمتع باستعراض ما لديه من صواريخ ويتباهى بها أمام العالم. وأبدى كندي أقصى درجات الاهتمام بطمأنة اميركا والعالم اللذين راعهما الوصول إلى حافة حرب نووية، في حين أن ترمب لا يفعل ذلك أبدًا، كما ترى نونان أن الأزمة الحالية مسؤولية ترمب، لكنه ليس المسؤول عن حدوثها. فثلاثة رؤساء من قبله حاولوا حمل كوريا الشمالية على التخلي عن برنامجها النووي بلا جدوى. وطريقة ترمب في التعاطي مع الأزمة مسؤوليته هو، والمؤمل ألا يكون المسؤول عن حدوثها. 

يُلاحظ في الأزمة الحالية أكثر من أزمة 1962، ولا سيما إزاء التصعيد الكلامي بين اللاعبين الرئيسيين، وجود خطر كبير من حدوث خطأ في الحساب أو إساءة فهم إشارة أو ردة فعل مفرط على حدث طارئ. 
من هذه الناحية في الأقل، هناك دروس نافعة تُستلخص من أزمة الصواريخ الكوبية في عام 1962. ففي تلك الأزمة، كان كندي حذرًا في ما يقوله، ولم يطلق الكلام على عواهنه قط لأنه كان يعرف أن للكلمات قوتها وطريقة الآخرين في فهمها لا يمكن دائمًا أن تُحسب بدقة. وكان يعرف انه لا يستطيع أن يستخدم كلمات مثل "النار والغضب"، توحي بالتفكير في حرب نووية. 

عرف خصمه
كان كندي يعرف أن من يملك قوة نووية لا يستطيع إطلاق تهديدات نووية. والمعروف عن كندي انه سمى حصاره للجزيرة الكوبية "حجرًا" لأن الحصار عمل عسكري والحجر يتحمل تفسيرات شتى. وكان كندي يعمل بمثابرة مع مستشاريه بشأن التصريحات العلنية يصوغ فيها كل عبارة بدقة كبيرة. وكان يستخدم أحيانًا لغة إنشائية مثل إعلانه: "لا نريد أن تصبح ثمار النصر رمادًا في أفواهنا". 
كان كندي يعرف خصمه. ففي رئيس الوزراء السوفياتي نيكيتا خروتشيف كان كندي يواجه لاعبًا عقلانيًا، بعد أن استقرت اميركا والاتحاد السوفياتي في حرب باردة مديدة. كانت استراتيجية اميركا "تدمير مؤكد للطرفين"، لكن الافتراض الذي كان سائدًا أن ايًا من الطرفين لن يطلق صواريخه النووية على الآخر إزاء خطر التدمير المتبادل بكل تأكيد. 
تقول بيغي نونان إن هذا الافتراض ليس ممكنًا في الأزمة الحالية. فنحن لا نعرف إن كان ترمب يواجه لاعبًا عقلانيًا. لذلك، عليه أن يسأل نفسه إن كان جائزًا أن تكون لغته النارية استفزازية أكثر منها ذات رسالة. فأكثر من نصف العالم ينظر على كيم جونغ أون على أنه زعيم مخبول وأن عددًا لا يُستهان به قد ينظر إلى ترمب نظرة مماثلة. من هنا القلق الشديد حاليًا وحاجة اميركا إلى المنطق الهادئ وليس الانفعال. 

جنرالات متمرسون
كثيرون يشعرون بالارتياح لكون ترمب محاطًا في هذه الأزمة بجنرالات متمرسين ناضجين مثل وزير الدفاع جيمس ماتيس ورئيس موظفي البيت الأبيض جون كيلي ومستشار الأمن القومي هربرت ماكماستر. وسيكون من المفيد أن يصبحوا وجه اميركا وصوتها في الأزمة الحالية، كما تقترح الكاتبة نونان. 
لكن العديد من العناصر التي ساهمت في حل الأزمة الكوبية سلميًا لن تتكرر على الأرجح في الأزمة الحالية. من ذلك، اتصل كندي بناشري صحيفتي نيويورك تايمز وواشنطن بوست ومجلة تايم ليطلب تعهدهم بالتعاون والتروي. فوافقوا كلهم على طلبه. وأطلع كندي سلفه الرئيس دوايت آيزنهاور على خطة حصار كوبا فمنحه الرئيس السابق دعمه. 
بعد عشرة أيام على انفجار ازمة الصواريخ الكوبية، أوعز كندي إلى شقيقه المدعي العام روبرت كندي بأن يعقد اجتماعًا سريًا مع اناتولي دوبرينين، السفير السوفياتي في واشنطن، للتوثق من أن السوفيات يفهمون جدية اميركا في قراراتها، ومن أن اميركا لا تسيء فهم الموقف السوفياتي. قال المدعي العام للسفير السوفياتي إن القادة العسكرين يطالبون بغزو كوبا، وإن الرئيس سيضطر إلى الموافقة إذا لم يسحب خروتشوف الصواريخ من كوبا. 

العالم سيحترق
كان ذلك اجتماعًا غاية في الخطورة، عُقد بنجاح وراء أبواب مغلقة. فهل يمكن أن يُعقد اجتماع مثله مع كوريا الشمالية؟ 
للعلم، فإن دوبرينين لم يكن لديه هاتف موثوق أو اتصال هاتفي بالكرملين. لكي ينقل ما دار في الاجتماع مع روبرت كندي، اتصل بشركة ويسترن يونيون. وجاء شاب على دراجة هوائية لأخذ البرقية. فكر دوبرينين وهو يراقب الشاب يمضي على دراجته انه إذا توقف في الطريق لشراء مشروب أو لقاء صديقته فإن العالم سيحترق.
كان من محاسن الصدف أن اللاعبين في الأزمة الكوبية عاشوا في عالم أبطأ وأثقل حركة، يمنحهم وقتًا للتفكير وإعداد استراتيجية ورد. العالم "الآني" الذي نعيش فيه عالم أخطر بكثير. 
ما هي الدروس التي يمكن استخلاصها من الأزمة الكوبية؟ أن للأزمات مليون قطعة متحركة تحتاج إلى قيادة مركزية لمتابعتها وإبقاء الحكومة منتبهة. وان القرارات التي تُتخذ في الزمن الحقيقي تحت ضغط الأزمة يجب ألا تكون منطقية فحسب بل وان يمكن الدفاع عنها منطقيًا كذلك. وتقتضي الحكمة إبقاء الضغط منخفضًا قدر الامكان، لا سيما حين تكون الأمور ساخنة. 


ترجمه: عبد الاله مجيد