لم يستقر مؤشر الإجابات على سؤال استطلاع "إيلاف المغرب" إلا قبيل الشروع بقليل في تحرير هذا التعليق؛ ما يفسر تردد المستطلعين في التعبير بسرعة عن موقف موضوعي حيال الإشكال الكبير الذي أثاره العاهل المغربي في خطاب ذكرى عيد الجلوس الأخير، إذ وجّه انتقادًا شديد اللهجة وغير مسبوق في توقيته للإدارة الحكومية، حين اعتبرها مقصّرة في خدمة المواطن ومعرقلة للاستثمار الكفيل وحده بخلق فرص العمل لمواجهة شبح البطالة المتنامي. وهي مؤاخذات خطيرة ترقى إلى مستوى التهم.

إيلاف من الرباط: تجاوبت مع الملك محمد السادس، في توصيفه للإدارة المغربية، نسبة عالية من المستطلعين المغاربة استقرت عند 83.33 في المائة، بينما عبّر عن رأي مخالف حوالى 12.50 في المائة؛ وهي نسبة مرتفعة تدل على تقاسم نظرة سلبية بين المغاربة إزاء إدارة بلادهم الحكومية؛ فيما لاذ أقل من 5 في المائة بالحياد في استطلاع "إيلاف المغرب" لهذا الأسبوع.

من المؤكد أن النسبة العالية للمنتقدين المؤيدين لتوصيف الملك، لا تعني أن الإدارة المغربية كلها سوء في سوء؛ فهي في جميع الأحوال مظهر لثقافة المجتمع وقيمه وعاداته، بما فيه من علل وسلوكيات سلبية كثيرة تتعدى الإدارة لتمسّ قطاعات ومرافق لها صلة بخدمة المواطنين.

الإدارة في المغرب اسم لمسميات عدة ومستويات متداخلة في ما بينها. هي ليست بنية متجانسة، لذلك تختلف من حيث النجاعة والفاعلية والتنافس في خدمة المواطن أو المرتفقين كما يسمون في الأدبيات الإدارية. وبعبارة أخرى، فإن ما تنجزه إدارة محددة، يتعرّض للتشويه في مصالح أخرى، تبعًا للدورة البيروقراطية.

الصعوبات والتعقيدات التي تواجه المغربي في مصالح وزارة الداخلية، ليست هي نفسها التي يصطدم بها أمام وزارة العدل أو الصحة العمومية.

توجد إدارات لا يحتك بها المواطن إلا نادرًا، مثل الخارجية والتجارة والصناعة والدفاع الوطني؛ وبالتالي يجب الاحتراس من التعميم. وللتذكير فقط، فإن شكاوى المواطنين تنتقد في الغالب القطاعات اللصيقة بحياتهم مثل الداخلية، الصحة، العدل والمالية... فيما يصطدم المستثمرون الأجانب بوزارات أخرى أو إدارات تابعة لها مثل الضرائب والبلديات والعدل والجمارك.

ومن المؤكد أن العاهل المغربي، قصد في خطابه الحاسم، الإدارات التي تعرقل الاستثمار، الضروري لإنعاش رئة اقتصاد بلاده.

العراقيل الإدارية نوعان: إما إنها ناتجة من التخلف وتفشي الرشوة والمحسوبية وغياب الجودة بين صناع القرار الإداري؛ فإذا لم تقض طلباتهم المنافية للأخلاق، فإنهم يبتكرون العراقيل ويتعسفون في تأويل النصوص الإدارية، فلا يبقى، والحالة تلك، أمام المستثمر إلا مد يده إلى جيبه أو جمع حقائبه.

النوع الثاني من العراقيل، وفيه مستويات أيضًا. يأتي في مقدمتها كسل الموظفين وإهمالهم، بل استهتارهم بمصالح الناس وغيابهم المقصود عن دوائر عملهم، كما أشار الملك إلى تلك الظاهرة بصريح العبارة. هذا فضلًا عن عدم إجادة عملهم بالتدقيق والتحري.

المشكل الأخير رغم بساطته، يسبب عذابًا للمرتفقين وهدرًا للوقت والمال. وللأسف تمتد الظاهرة إلى بعض المفوضيات الدبلوماسية خارج المغرب، والتي أثارت بدورها غضب الملك في وقت سابق.

الصنف الأصعب من العراقيل هو الناتج من هيمنة العقلية البيروقراطية الضيقة الأفق، امتزج فيها التخلف بالإرث الاستعماري في تدبير الإدارة. يضاف إلى كل ذلك ضعف في تأهيل الموارد البشرية التي جرى توظيفها بسرعة من دون تكوين ملائم وقادرة على تلبية حاجيات المواطنين.

يمكن القول إنه توجد في الإدارة المغربية، أنماط من الموظفين متفاوتة مستوى التكوين، بشكل حاد. فالجيل القديم الذي وظف على عجل هو بالتأكيد من دون الخريجين الحديثين من الكليات ومعاهد التكوين. وبين الطائفتين صراع وتنافس خفي ينعكس سلبًا على أداء الإدارة.

إذا استثنينا السلبيات الأخلاقية المتمثلة في انعدام الضمير المهني، الذي يدفع موظفين إلى الإخلال بواجبهم، فيطلبون رشوة مقابل خدمة، ليسهموا في الإساءة إلى صورة الإدارة والقطاع الحكومي بصفة عامة. إذا ما استثنيت تلك العادات، فإن الإدارة المغربية، حققت في السنوات الأخيرة قفزة نوعية في مسار النجاعة والجودة، بفضل التدابير الزجرية التي اتخذت في حق عابثين بالقانون وحقوق الناس وبسبب يقظة بعض الضمائر.

بالتالي، ليس عدلًا وضع الإدارات الحكومية ومن فيها، في سلة واحدة. حدث تطور مع الزمن وارتفاع صوت الاحتجاج عند المواطن الذي ضمن له الدستور الجديد الحق في المحاسبة والمساءلة، كما تحسنت خدمات بعض المرافق وتغيرت إلى حد ما سلوكيات الموظفين نحو الأفضل من القطاع الخاص الذي يستشهد به في مجال النجاعة؛ بينما هو في واقع الأمر غارق في ممارسات مشينة.

في هذا السياق، تتعاظم شكوى المغاربة، على سبيل المثال، من ممارسات القطاع الصحي الخاص. مصحات كثيرة تنعدم فيها قواعد الشفافية في التعامل مع المرضى (تسديد كلفة العلاجات نقدًا حتى لا تخضع للضرائب). وليس الواقع بأفضل في مجال الصفقات الكبرى وقطاع المال والأعمال والتجارة الحرة.

هذه المشاكل وأخرى، يصعب حصرها، من الطبيعي أن تغضب الملك محمد السادس، خاصة وأنه ما انفك ينبه المرات تلو الأخرى، داعيًا إلى النجاعة وخدمة المصلحة العامة ومناشدة الضمير المهني؛ ولذلك حث في بداية ملكه على تفعيل ما أسماه "إدارة القرب" التي توفر خدمة سريعة للمواطنين.

هناك من تجاوب مع خطب الملك مثلما صمدت مقاومة الإصلاح في الإدارة الحكومية، علمًا أن المؤشر يتجه نحو فعالية أكثر ليس بسبب ثقافة التخليق، وإنما بسبب تطور التكنولوجيا التي تقتصد الزمن الإداري، وتنجز بدرجة عالية من الضبط. الآلة لا تخطئ ولا تنسى غلا إذا ضللها البشر وأساء استخدامها.

لا بد هنا من التذكير بتجربة أقدم عليها المغرب بدافع التخفيف من عبء الإدارة وتقليص الميزانية المرصودة للموظفين. أطلقت الحكومة قبل عقد ونصف عقد مشروع "المغادرة الطوعية" لتحفيز العاملين على ترك عملهم والتمتع بتقاعد قبل الأوان، مقابل تحفيزات مادية مهمة ومشجعة يتقاضونها قبل المغادرة مع حفظ حقوقهم في الأقدمية والتغطية الصحية.

ذلك القرار الذي قيل في حينه إن البنك الدولي هو الذي نصح به، أدى في المغرب، بسبب غياب الرؤية السليمة، إلى عكس النتائج المتوخاة منه.

بقيت الإدارة متورمة بصغار الموظفين الدين يفتقدون الأهلية واستفاد من المغادرة، خيرة الأطر المؤهلة ما تسبب في نزيف في بعض القطاعات الحيوية، كالتربية والتعليم والصحة، لم تنتبه له الحكومة، فواجهت بعد المغادرة مشاكل عويصة بينها أن المغادرين أصبحوا أحرارًا، ودخلوا سوق العمل، فضيقوا على طالبي الشغل الشباب.

ويمكن اعتبار تجربة المغادرة الطوعية في المغرب نموذجًا لتكاسل وفشل وانعدام نجاعة الإدارة وهيمنة المقاربة البيروقراطية في اتخاذ القرار الصحيح والصائب.

والحقيقة أن سوء العلاقة بين الإدارة في المغرب وغيره من البلدان، محكوم بالزوال، طال الزمن أم قصر، ما دامت الإدارة الالكترونية على الأبواب تتغلغل في أحشاء الإدارة وملفاتها المتراكمة، وستصبح الآلة والذكاء الاصطناعي المخاطب الوحيد في المستقبل المنظور. فهي لا تخطئ إلا إذا أساء الإنسان استعمالها.