الرباط: توفيت في مدينة الرباط يوم الثلاثاء الماضي باكيتا غورونيو، أشهر معمرة إسبانية مقيمة خارج بلادها منذ عام 1939، السنة التي غادرت فيها إسبانيا بحرًا عبر مدينة وهران الجزائرية قاصدة المغرب برفقة زوجها، وهي في قمة الشباب، لم يكن عمرها قد تجاوز السادسة والعشرين ربيعًا. 

الإسبانية التي أسلمت في العاصمة المغربية روحها وحيدة في شقتها ، تجاوزت المائة وثلاث سنوات ، فهي من مواليد 1913 عاشت حياة زاخرة بالأحداث السارة والضارة ؛ بعضها جراء التزامها السياسي وانتمائها للحزب الشيوعي الإسباني ودفاعها المستميت عن علم الجمهورية الذي حملته في يديها وقلبها إلى المغرب ، حريصة أن تلف به جسمها عند احتفالها كل سنة بذكرى قيام الجمهورية الثانية في بلادها ، مؤملة إعلان الثالثة. 

كثيرة هي أوصاف التمجيد والإشادة التي أطلقت على السنيورة غورونيو" من لدن صحافة وساسة بلادها حية، وبعد رحيلها، فهي رمز الصمود والمقاومة والتضحية وإيثار المحتاجين على نفسها ؛ يشهد على ذلك نشاطها وقد صارت لاجئة في المغرب ، حيث انخرطت في أنشطة سياسية ونقابية واجتماعية ، سواء وسط اللاجئين السياسيين الإسبان الذين فرّوا من بطش الديكتاتور الجنرال فرانسيسكو فرانكو المنتصر في الحرب الأهلية الإسبانية التي دامت ثلاث سنوات من 1936 إلى عام 1939، مدافعة عن حقوقهم لدى المنظمات الدولية، مساندة كذلك للمغاربة بالتوعية والتنظيم وخاصة النقابي. علمتهم كيف ينالون حقوقهم من مشغليهم الفرنسيين خلال عقد الأربعينيات من القرن الماضي 

وإذا كانت سلسلة أحداث غيّرت مسار من صارت منذ سنوات تدعى في إسبانيا الديمقراطية بـ"الباسيوناريا الثانية" تشبيهًا لها برفيقتها في الحزب دولوريس إيبارروي مع فارق أن الثانية عادت من المنفى بعد قيام الديمقراطية في إسبانيا عام 1975 ، وتوفيت في وطنها ، بينما أقسمت الرفيقة باكيتا أن لا تطأ قدماها إسبانيا ما دام الجنرال فرانكو على قيد الحياة ، ليستمر برها بقسمها بعد رحيل الديكتاتور والترحيب بها من قبل العهد الجديد. 

كانت باكيتا تتقن اللغة الفرنسية، التي درستها في باريس، حيث أرسلها والداها. ومنذ عودتها إلى وطنها انفتحت أمامها أبواب الشغل: مترجمة أولا، تقدمت بعدها لمباراة العمل مضيفة بالخطوط الإسبانية التي قبلتها من دون تردد.

غير أن اندلاع الحرب الأهلية عام 1936 سيحرمها من متعة التحليق بين سماء باريس ومدريد، بالنظر إلى أن حكومة الجبهة الشعبية في فرنسا، وقفت ضد الانقلاب العسكري الذي قاده فرانكو ضد الحكم الجمهوري الشرعي. 

لماذا اختارت باكيتا الاستقرار بالمغرب، خلافًا لأغلب اللاجئين الفارين من جحيم الحرب الأهلية، الذين استأنفوا رحلة المنفى نحو دول أميركا الجنوبية.

ربما قدرت الرفيقة باكيتا ان إجادتها للغة الفرنسية ستسهل لها مهمة العيش في المغرب، كما ستظل قريبة من بلادها التي حملتها معها في قلبها، معتزة وهي مقيمة بالمغرب، بصفتها لاجئة سياسية.

الأقدار اللغوية، سهلت الحياة للرفيقة باكيتا في المغرب، قانعة في البداية بأي عمل متاح ما دام يضمن لها الحد الأدنى من العيش الكريم في بلد اللجوء، إلى أن ساقتها الظروف لدخول القصر الملكي المغربي، لتعمل أولا في سكرتارية المعهد المولوي( المدرسة الأميرية) حيث يدرس حتى الآن الأمراء والأميرات ورفاق لهم يتم انتقاؤهم من المدارس المغربية اعتماداً على معدلاتهم المرتفعة، بصرف النظر عن مستواهم وأصولهم الاجتماعية .

في تلك المؤسسة التربوية الواقعة داخل محيط القصر الملكي بقلب العاصمة المغربية، ستتعرف باكيتا على الأمير مولاي الحسن الذي سيسمى وليًا للعهد ليصبح لاحقا ملكًا للمغرب خلفاً لوالده الملك محمد الخامس باسم الملك الحسن الثاني.

عاهل المغرب الراحل، اختار الجمهورية باكيتا ضمن طاقم سكرتاريته، بعد تأكده من إخلاصها ووفائها للأسرة المالكة وصراحتها وصرامتها أيضا. 

ولم يكن الراحل الحسن الثاني، ليقدم على هذا القرار : إدخال شيوعية وجمهورية إلى رحاب القصر الملكي ، لولا موافقة والده الراحل محمد الخامس الذي أعجب بدوره بشجاعة المناضلة الإسبانية وتضامنها مع محنة الأسرة الملكية التي اقتيدت إلى المنفى على يد السلطات الفرنسية المحتلة .

بعد رجوع الأسرة الملكية من المنفى قبيل إعلان استقلال المغرب، ضم ولي العهد مولاي الحسن باكيتا إلى حاشيته وعملت معه حوالي ثلاث سنوات، رافقته في زيارة إلى فرنسا.

في هذا السياق، روت الإسبانية الراحلة ، في مذكراتها طرفًا ومفارقات صادفتها خلال مقامها الممدد في المملكة المغربية، بينها أن الملك الحسن الثاني وهو ولي العهد ، طلب من ربان الطائرة التي أقلته من باريس إلى الرباط، أن يحلق على علو منخفض وهو يقطع أجواء العاصمة الإسبانية لتتمكن باكيتا من رؤية مدريد، واسترجاع الأمكنة التي تنقلت بينها وهي طفلة وشابة يانعة . 

تعلق باكيتا على التفاتة الملك الحسن الثاني " لم أتمكن من رؤية كل الأمكنة بسبب دموع التأثر التي غلبتني".

تلك الحياة الزاخرة بالأحداث والمغامرات والمعاناة، جديرة بالثناء مثلما يستحق الإشادة الملك الحسن الثاني الذي وضع ثقته في أجنبية وفية للنظام الجمهوري. واقعة تؤكد أيضًا تأصل أخلاق إنسانية في ملك المغرب الراحل الذي ظل متتبعًا لأطوار حياة سكرتيرته وقد استقرت بحي المحيط الشعبي بالعاصمة، يسأل عنها ويتقصى أحوالها ، فتصارحه بكل شيء، دون أن تجد حرجًا ، وهي المتآبية أمام الآخرين ، في طلب مساعدته .

وكذلك كان فقد تدخل الملك لصالحها لما أصر مالك الشقة المتواضعة التي تقيم بها، على إفراغها، بمبرر إعادة ترميمها. أوقف الملك ذلك التصرف المنافي للأخلاق، لكن الملك المتعاطف لم يستغل صفته لإجبار الملك ليغير شقتها بأخرى في الطابق الأول من نفس العمارة. 

قلت حركات باكيتا مع تقدم عمرها، إلى أن عجزت في السنوات الخيرة نهائيًا عن الحركة.

ظلت نائمة في سريرها، ممسكة بجهاز تشغيل التلفزيون وفي اليد الأخرى هاتفها النقال، لنداء الاستغاثة في حالة الطوارئ.

آخر من رأتها في الهزيع الأخير من الموت، سيدة خدمتها إلى أخر رمق . رأتها تحتضر. أمسكت بيديها وهي تردد.. فلترحلي بسلام وهدوء، سنيورة باكيتا.