«إيلاف» من الرباط: توقع أكثر من نصف العينة التي شاركت في استطلاع "إيلاف المغرب" الأخير ، والذي سأل المتصفحين للموقع، عن موقفهم من تحليلات وأخبار راجت بقوة في المدة الأخيرة بالمغرب، بخصوص مآل حزب الأصالة والمعاصرة: هل يتراجع عن المشهد الحزبي بما في ذلك احتمال تواريه أو الذوبان في حزب آخر من الأحزاب الفاعلة في الساحة السياسية؛ دون استبعاد اعادة هيكلته وإلباس التنظيم لباسا جديدا، يبعده بمسافة معينة عن النظام.

ووضعت " إيلاف المغرب " سؤالها على المتصفحين، تجاوبا مع الجدل الدائر حاليا في المغرب حول الحزب وداخله، على أثر الضجة التي أحدثتها استقالة الأمين العام إلياس العماري، وتركه مقصورة قيادة "الجرار" رمز الحزب، واضعا الحد لمزاعم استفراده بالسلطة دون إشراك حقيقي في القرارات الكبرى لزملائه في القيادة، ما أدى إلى بروز منتقدين اختلفت نبرات أصواتهم المعارضة.

وخلال تتبع مؤشر الإجابات، لاحظنا في "إيلاف" تململا غير مألوف في هذا النوع من الاستطلاعات، حيث تأرجحت مؤشرات الإجابة كثيرا؛ فقد فوجئنا في البداية بصعود مؤشر أفاد ان المتصفحين استبعدوا فكرة تراجع الحزب وأنه سيظل فاعلا في المشهد السياسي معتبرين أن الأزمة التنظيمية التي يمر بها عابرة لا تهدد كيانه

لكن المؤشرات انقلبت رأسا على عقب إذ تراجع عدد المتفائلين بمستقبل الحزب لصالح كفة الذين توقعوا تراجعه؛ كما سجلنا ارتفاع مؤشر المترددين الذين لا رأي لهم ، شارف العشرين في المائة. 

إلى ماذا يمكن إرجاع توزع نتيجة الاستطلاع، بين نعم ولا، ومن دون رأي؟ بصورة تكاد تكون متساوية (حوالي 58 في المائة) لصالح احتمال تراجع الحزب، فيما توزعت النسبة الباقية بين الرافضين بقول “لا" مؤيدين استمرار الحزب (25 %) ، في حين أحجم اكثر من16٪‏ عن الإدلاء برأي أي أنهم متحفظون.

أكيد أن ثمة أسبابا ومبررات كثيرة تقف وراء نتيجة التصويت، قد يكون في مقدمتها تنامي شعور عند المهتمين بالشأن السياسي وجزء من الرأي العام المغربي، بأن حزب "الأصالة والمعاصرة " لم يستقر بعد على أرض صلبة تحميه من الهزات التنظيمية المباغتة والامتحانات السياسية العسيرة ، وأن المعارك أكبر من محركات رمزه.

في هذا السياق، يوجد من يعتقد ان زعيم الحزب، ارتقى سلم القيادة بسرعة فائقة وبأسلوب التزكية الجماعية. لم ينافسه أحد وجرى التصويت عليه برفع الأيادي في مؤتمر سوي على عجل، كما يقال، تحت ضغط ومبرر الاستعداد للاستحقاقات الانتخابية التي كان على الحزب خوض غمارها مراهنا على تمكين “الجرار" من حرث الأرض كما شاء، تاركا باقي الأحزاب تداري الغبار الكثيف الذي ستخلفه قوة اندفاعه وضخامة عجلاته.

وعلى الرغم من أن الحزب، وتحديدا أمينه العام، له مزية انه أحدث حراكا في المشهد الحزبي المغربي وأطلق نقاشا ساخنا ومحتدا بين "الأصالة والمعاصرة" وبين مخالفيه من الأحزاب الأخرى، انتقدوا جموح "الجرار" واتهموه ، وهو الوافد الجديد، بمحاولة ابتلاع المشهد الحزبي.

ولم ينف " الاصالة والمعاصرة " عن نفسه نزعة "التغول" التي روجها عنه منافسوه ؛ وكثيرا ما ردد قادته في مناسبات وسياقات أن حزبهم جاء لإعادة حرث الأرض وتقليب طبقات تربتها مثلما يفعل المزارعون المجربون بعد فترات الجفاف ، مع فارق أن "الأصالة والمعاصرة" ، استجلب أدوات حرث عصرية ضمنها الجرار فيما؛ ظلت باقي الأحزاب وفية للأدوات التقليدية لكن "الباميين" نسبة الى " الاصالة والمعاصرة" ، فاتهم الانتباه إلى ان الأحزاب المنافسة استفادت في مواسمها السياسية مما أتاحته لهم التكنولوجيا الرقمية ،من إمكانيات التواصل مع شرائح عريضة في المجتمع ، تجاوبت مع الانتقادات الموجهة لـ" الاصالة والمعاصرة".وأدى تصارع الوسيلتين ( المحراث والجرار) إلى انتصار الأول، ما ظهر بجلاء في الانتخابات الجماعية التي جرت عام 2015 وشكلت تحذيرا جديا لـ" الاصالة والمعاصرة"، خاصة من قوة خصمه اللدود "العدالة والتنمية" فقد تمكن الإسلاميون المعتدلون من اكتساح المدن والحواضر وهي صانعة السياسة في المجتمعات المتحضرة بل اقتحم حزب الإسلاميين، حصونا وقلاعا في البوادي النائية وهي المعروف عنها ولاؤها وتصويتها لصالح أحزاب ترضى عنها السلطات الرسمية وتسبح في فلكها .

كان على حزب "البام" خوض معركة أقوى واشد في الانتخابات التشريعية في العام التالي 2016. دخلها وهو يواجه تهمة "الالتفاف " على نتائج البلديات وتحويلها لصالحه، وهي التي كانت ستوصل حزب "العدالة والتنمية "إلى رئاسة عدد من الجهات والبلديات، لو سلكت التحالفات الحزبية مسلكا معقولا ومنطقيا.

تقبل عبد الإله ابن كيران ، ما أسماه "سرقة" النتائج ومضى يهيئ للمفاجأة الصاعقة في التشريعيات. وحقق ما خطط له.
ويشك اغلب المغاربة في صحة الدعاوي المروجة من قبل "البام" بأن "العدالة والتنمية"، حزب خطير ومهيمن يسعى إلى "تمكين" أتباعه من مؤسسات البلاد لتطبيق توجهاته المحافظة ، بدليل أنه تصدر النتائج التي جناها في الاستحقاق التشريعي وأصبح القوة الأولى في مجلس النواب ، ما أهله دستوريا لتشكيل حكومة ائتلافية جديدة .

صحيح أن "البام" احتل المرتبة الثانية في المؤسسة التشريعية، وهي نتيجة جيدة لحزب حديث النشأة، دخل في مواجهة مكشوفة مع تيار شعبي كبير جسده "العدالة والتنمية"، يقوده زعيم بصفات كاريزمية مؤكدة.

وبدل أن يرضى “الأصالة والمعاصرة" عن نفسه وعلى إنجازه في التشريعيات؛ فإنه سارع إلى لعبة “خلط الأوراق" لقطع الطريق على "العدالة والتنمية "دون رئاسة الحكومة.

ولما باءت المحاولة بالفشل، انكفأ على نفسه وانطلقت مشاورات ثانية لتشكيل الحكومة، وبدا جليا أن قرارات الحزب بعد النتائج اتسمت بالاضطراب والتخبط، لذا بات من الطبيعي الاعتماد على بديل حزبي آخر وزعامة مغايرة: التجمع الوطني للأحرار بدل "البام" وعزيز أخنوش، عوض إلياس العماري.

كانت إشارة واضحة، من القوة الحاضنة، أن الفارس "إلياس" كبا كبوة كبيرة في السباق، وبالتالي تقتضي الضرورة البحث أو التفكير في بديل جديد أكثر قبولا، سواء في صفوف الحزب أو وسط الرأي العام، خاصة وأن غريمه وخصمه ابن كيران ، تخلى مكرها عن أماله في قيادة الحكومة .

يبدوا أن نتائج الاستطلاع، يمكن تأويلها وقراءتها بشتى الأوجه، لكن المؤكد أنها تعبر عن قلق كبير يسود الساحة السياسية المغربية ، ضاعفه خطاب العاهل المغربي في عيد العرش ، نهاية يوليو الماضي، حين حاسب الطبقة الحزبية وأجهزة الدولة على تقصيرها في القيام بواجبها.

السؤال الذي يتردد على كثير من الألسنة: هل بقي مكان طبيعي في المشهد لحزب الأصالة والمعاصرة، بعد استقالة / إقالة أمينه العام، على اعتبار أن الحزب مختزل في الزعيم؛ فإذا ذهب يصبح البناء معرضا للانهيار أو التشقق في أحسن الأحوال.

طبعا، لا تلغي كافة الاحتمالات والتطورات بخصوص إمكانية عدول الأمين العام عن استقالته التي لن تصبح سارية المفعول إلا إذا أجازها برلمان الحزب باختيار من يخلفه.

أما إذا تشبث بالاستقالة ، كما يبدو وبناء على قرائن وشهادات متطابقة، فإنه سيترك الجبل بما حمل، ليدخل في تجربة أو مغامرة أخرى أو يترك العمل الحزبي

وسواء، مع إلياس أو من دونه، فإن خيارات الأصالة والمعاصرة باتت محصورة وضيقة: فإما أن يعيد خلق نفسه وهذا تمرين صعب يستلزم شجاعة وجرأة كما أن العملية قد تأخذ وقتا أطول بمعنى تراجعه المؤقت عن حلم الوصول إلى رئاسة الحكومة.

الخيار الثاني أن يذوب "البام" في حزب آخر، والأقرب إليه التجمع الوطني للأحرار، يليه حزب "الحركة الشعبية" وسواهما من الأحزاب الصغيرة. وهنا ستكبر الجرة كما يقول المغاربة، وسيصبح من الصعب تدبير كل تلك الحساسيات والمتناقضات المتنافرة على صعيد الأشخاص والبرنامج السياسي، دون إهمال موقف القواعد الشعبية والحزبية

الاحتمال الثالث أن تنخرط جميع الأحزاب السياسية المغربية في عملية إعادة البناء في أفق تعميق وتوسيع الديمقراطية الداخلية، بعد ان أكدت الأحداث انتهاء عهد "الزعيم" المتحكم في الحشود. وهذا ورش نراه بعيدا بعيدا.

ولذلك فإن مشكل المغرب لا يكمن فقط في مرض أحزابه، وإنما يعود بالأساس إلى سلبية نخبه وتكالبها على المنافع وكسل منظماته المدنية وسلبيتها أمام تحديات التنمية.

هذا هو الداء المستعصي الذي يشغل بال الملك محمد السادس. فهل يكشف وصفة العلاج في خطاب افتتاح الدورة الجديدة للبرلمان ، بعد اقل من أسبوعين؟