وقع المحتوى تحت رحمة الإعلان ومواله، فصار المعلن يمسك بمصير الصحيفة، ما يدفعها إلى ابتكار وسائل تمنحها القدرة على الاستمرار في تقديم محتوى إخباري وثقافي عالي الجودة. 

إيلاف من دبي:  استمرت "السفير" اللبنانية 42 عامًا، وأقفلت أخيرًا بسبب المصاعب المالية. أما وريثتها "الاتحاد" اللبنانية فاستمرت 42 يومًا، وأقفلت متحججة هي الأخرى بالمصاعب المالية. المصيبة عامة، لا تخص صحيفة بعينها، وصارت الديمومة في عالم الصحافة المكتوبة عبئًا يثقل كاهل الناشر، كما يثقل كاهل القارئ الذي ما زال إلى الآن يهوى رائحة الحبر اليومي على الورق الصباحي المهلهل.

لا شك في أن صحف اليوم تدفع ثمن عجزها عن قراءة المستقبل، وعن تعلمها من تجارب صحف الغرب التي تحول معظمها إلى مواقع إلكترونية تقدم خدماتها الإخبارية بمقابل مادي. فمال الإعلان يهرب إلى مواقع التواصل الاجتماعي، حيث الصرف أقل والمردود أعلى، وحيث لا قيمة لمحتوى إلا المحتوى الاستهلاكي.

وخز بالكلمات

هذا كلام يصلح وخزًا لضمير مهنة "القراءة" قبل أن يكون وخزًا لمهنة "الصحافة". فالربط الذي يمكن وصفه بالـ "آثم" بين محتوى جيد وتمويل مجدي هو بمنزلة حبل يلفّ حول عنق كل صحيفة تحاول أن تتميز من نظيراتها من دون أن ترتهن لمزاج المعلنين والمعلن لهم والمفاهيم الاستهلاكية على السواء.

ربما تجد الصحيفة العربية من يمولها، لأسباب سياسية، أو لأسباب الوجاهة والمكانة، فتستمر عامًا أو عامين قبل أن تنهار، وينهار معها المئات من الصحفيين والفنيين والعاملين. لكن هذا ما لا يتاح لصحيفة غربية، لذا على الصحف الغربية أن تسعى بكل جهودها إلى أن تجد ما ينمي فيها حس الابداع لتبتكر وسائل مختلفة للاستمرار، من خلال تعويض تراجع مردودها الإعلاني وتناقص عدد قرائها المباشرين ومبيعاتها، من دون أن تضطر إلى تقديم التنازلات المهنية على حساب جودة المحتوى، إن بقبول أي محتوى يملأ الأعمدة والصفحات، من دون مقابل أو بمقابل ضئيل يخفف الأعباء، أو بالاستغناء عن أعلام في المهنة قامت عليهم الصحيفة واستبدالهم بأقلام مستعدة لتقديم محتوى "على قدرها" وعلى "قدر راتبها الضئيل نسبيًا"، ما يعرض الصحيفة ودورها وسمعتها المهنية للخطر.

ليس مداراة ذلك وتجنبه بالأمر اليسير مع الأزمات المالية المتتالية. ففرض مبلغ من المال أسبوعي أو شهري على المواطن كي يقرأ الخبر ليس قرارًا سهلًا، لكن "غارديان" البريطانية بدأت منذ أكثر من عام سياسة يبدو أنها أثمرت... قليلًا. إنها سياسة "بما أنك هنا".

بما أنك هنا...

ففي ذيل كل مقالة منشورة في موقع غارديان مثبت هذه العبارة: "بما أنك هنا... نريد منك خدمة صغيرة. ثمة ناس يقرأون غارديان أكثر من أي وقت مضى، لكن إيرادات الإعلانات عبر وسائل الإعلام تتراجع بسرعة. وخلافًا للعديد من المؤسسات الإخبارية، لا نفرض رسمًا على الدخول إلى موقعنا الإلكتروني، فنحن نريد أن نبقي صحفتنا مفتوحة بقدر ما نستطيع. لذلك، نحن بحاجة إلى مساعدتكم. فالصحافة الاستقصائية المستقلة تستغرق الكثير من الوقت وتتطلب منا الكثير من المال والعمل الشاق، لكننا نفعل ذلك لأننا نعتقد أن آراؤنا مهمة - لأنها قد تكون آراؤك أيضًا.

إذا ساعدنا كل من قرأ تقاريرنا وأحبها، مستقبلنا سيكون أكثر أمنًا. يمكنك دعم غارديان بجنيه واحد فقط، وبدقيقة واحدة من وقتك. شكرًا".

في أكتوبر الماضي، أعلنت غارديان أن لديها الآن 500،000 داعم منتظم، من أعضاء ومشتركين، في أكثر من 100 دولة، يقدمون لها مساهمات مالية منتظمة. وقد ضاعفت الصحيفة قاعدة داعميها خلال الاثني عشر شهرا الماضية.

في المقابل، اعتمدت أغلبية الصحف الأخرى سياسة "الجدار المالي" أو "باي وول (pay wall)"، بفرض مبلغ يسير أسبوعي أو شهري بمنزلة الاشتراك بالموقع، من أجل الحصول على المحتوى المطلوب، مع تقديم منحة مجانية هي قراءة عدد من المقالات المجانية يوميًا أو أسبوعيًا أو شهريًا.

إيكونوميست على سبيل المثال، تطرح أمام قرائها الكثير من الخيارات، منها الاشتراك المجاني والحصول على فرصة قراءة 3 مقالات مجانية أسبوعيًا، أو الاختيار بين ثلاث خيارات للاشتراك المدفوع والحصول مجانًا على كومبيوتر شخصي محمول هدية.

أما نيويورك تايمز فواكبت التقدم التقني بموقعها واختارت في الوقت نفسه الحفاظ على ورقها الذي لا يزال يقرأه الملايين. ونقلت "الشرق الأوسط" عن رونالد كابوتو نائب رئيس قسم الخدمات الورقية لدى الصحيفة قوله: "لن نتخلى عن طبعتنا الورقية في المستقبل القريب، إلا أنني أستطيع تخيل نيويورك تايمز إلكترونية يومًا ما"، قالها وهو غير قلق على التايمز الورقية، فهي صحيفة دولية يتسابق المارة على شرائها من الأكشاك أينما كانوا.

المال إلى الرقمي

نعم... ليس في اليد حيلة، فالسوق الرقمية تسرق من الصحافة الورقية مالها. وهذا ليس نهاية المطاف، فالمواقع الإلكترونية التابعة للصحة الورقية لا تصيب من هذا المال كثيرًا. 

بحسب تقرير نشره "الخليج الاقتصادي"، قدّر خبراء التسويق والإعلانات الرقمية أن الإعلانات الرقمية عبر مواقع التواصل والمواقع الإلكترونية تستنزف أكثر من 10 في المئة من الإنفاق الإعلاني في دول الخليج، ما يفسّر التراجع المتواصل في حجم القطاع الإعلاني، مع العلم أن الإعلانات الرقمية في نمو متواصل إلا أن أغلبية إيراداتها تذهب إلى الشركات العملاقة مثل غوغل وفايسبوك، فيما أكد عدد من خبراء ومسؤولي التسويق العاملين في القطاع العقاري أنهم ما زالوا يعتمدون بقوة على الإعلانات التقليدية، خصوصًا في الصحف.

بلغ الإنفاق الإعلاني في دول الخليج خلال الشهور التسعة الأولى من 2017 نحو 2.7 مليار دولار، مقارنة بـ 3.23 مليارات دولار في الفترة المماثلة في 2016 متراجعًا بنسبة 16 في المئة، وهي أيضاً نسبة تراجع الإنفاق الإقليمي الذي وصل إلى 5.47 مليارات دولار، مقارنة بـ 6.52 مليارات دولار في الفترة المقابلة من العام الماضي. واستحوذت الإمارات على نصف الإنفاق الإعلاني الخليجي في تسعة أشهر الأولى وبحصة إجمالية بلغت 46 في المئة، فيما حلت السعودية ثانية بحصة إجمالية 26 في المئة. بلغت حصة الكويت 13 في المئة، وسلطنة عُمان 4 في المئة، والبحرين 3 في المئة. 

أعدت "إيلاف" هذا التقرير بتصرف عن مواقع عدة. الأصول منشورة على الروابط الآتية:

http://www.alkhaleej.ae/economics/page/a2d90cd0-53bb-44f2-b25a-6377aecf6ccc

https://www.theguardian.com/gnm-press-office/2017/oct/26/guardian-reaches-milestone-of-500000-regular-paying-supporters

http://www.apexdiscovery.com/blog/why-the-guardian-should-nudge-its-online-readers-to-increase-subscriptions/

http://bit.ly/2E14a3c

http://bit.ly/2E0KL26