التقى الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، نظيره الفرنسي، إيمانويل ماكرون، في باريس في أول زيارة رسمية يقوم بها أردوغان إلى دول الاتحاد الأوروبي، منذ محاولة الانقلاب عليه في يوليو/ تموز من عام 2016.

وهو أول لقاء له مع ماكرون منذ انتخابه رئيسا لفرنسا في مايو/ أيار 2017، وإن كان الرجلان قد أجريا محادثات هاتفية وأخرى هامشية، في اجتماعات منظمة حلف شمال الأطلسي أو الجمعية العامة للأمم المتحدة.

ليس هناك في خطابات السياسة الفرنسية حكومة أو معارضة ما يشجع على التقارب بين تركيا وفرنسا منذ 2012 على الأقل، عندما أقر البرلمان الفرنسي، في حكم، نيكولا ساركوزي، قانونا يجرم إنكار "مجازر الأرمن". وقد نددت تركيا بهذه الخطوة وهددت باتخاذ مواقف دبلوماسية ردعية ضد فرنسا.

ولم يكن ماكرون مختلفا في مواقفه السياسية المنددة بسياسات أنقرة عن منافسيه في الانتخابات الرئاسية الأخيرة.

فقد انتقد، على غرار مرشح اليمين، فرانسوا فيون، قرار الرئيس السابق، فرانسوا هولاند، بالترخيص لتجمعات شعبية مساندة لأردوغان في باريس في مارس/ آيار 2017، قائلا: "تمنيت لو أن دول الاتحاد الأوروبي اتفقت جميعاها على منع مثل هذه التجمعات، فلا تخضع لاستفزازات أردوغان الدبلوماسية ضد ألمانيا وهولندا".

ولكن الواقعية السياسية أجبرت ماكرون، فيما يبدو، على التعامل مع تركيا باعتبارها دولة استراتيجية في منطقة الشرق الأوسط. فلم يتوقف التواصل بين الرئيسين الفرنسي والتركي في الأشهر الستة الماضية، بخصوص النزاع السوري ومكافحة "الإرهاب"، وآخرها تصاعد التوتر عقب اعتراف الرئيس الامريكي، دونالد ترامب، بالقدس عاصمة لإسرائيل.

وعبر الرئيس الفرنسي عن هذه "الواقعية السياسية" في حديث، أجراه في نهاية شهر أغسطس/ آب، مع صحيفة لوبوان الفرنسية، قائلا: "تعرفون أن الساحة السياسية الدولية ليست مريحة، فأنا أيضا مجبر على الحديث مع أردوغان أسبوعيا".

وقد انتقد أردوغان بدوره دول الاتحاد الأوروبي على موقفها " الفاتر" من محاولة الانقلاب، فلم تساند تركيا "بما فيه الكفاية". وقال في مقابة صحفة مع قناة تي أر تي الرسمية: "يؤسفنا أن دول الاتحاد الأوربي لم تحفل بهذا الاعتداء على الديمقراطية في تركيا، فلم يزرنا بعد محالو الانقلاب إلا الأمين العام للمجلس الأوروبي، ووزير أوروبي واحد ووزير الخارجية القطري".

وتعيب تركيا على فرنسا تحديدا سماحها لتنظيم حزب العمال الكردستاني الذي تعده تركيا والاتحاد الأوروبي تنظيما إرهابيا بتنظيم مسيرات ومظاهرات في باريس.

تركيا "شريك ضروري"

شرعت السلطات التركية في حملة ملاحقة لمن تتهمهم بالضلوع في محاولة الانقلاب على الحكم، أدت إلى فصل نحو 140 ألف شخص عن وظائفهم واعتقال 55 ألف بينهم صحفيون وأساتذة جامعات ومناضلون أكراد.

وأدت تلك الحملة بالاتحاد الأوروبي إلى وقف مفاوضات انضمام تركيا إلى الاتحاد نهائيا بدفع من المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل. ولكن ماكرون رد عليها بعدم المجازفة "بقطع" علاقات الاتحاد الأوروبي مع أنقرة لأنها "شريك ضروري".

وتحدث أردوغان، في مقابلة مع قناة تي أف 1 الفرنسية شبه الرسمية، بإيجابية عن تواصله مع ماكرون بشأن قضايا الشرق الأوسط، قائلا: "الخطوات التي خطوناها مع ماكرون فيما يتعلق بالقضايا الإقليمية كانت كلها في الاتجاه الصحيح".

وامتدح أردوغان دول الاتحاد الأوروبي على موقفها من اعتراف ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل، إذ أنها عبرت عن رفضها للقرار الأمريكي، وصوتت ضده في مجلس الأمن وفي الجمعية العامة للأمم المتحدة. وقال الرئيس التركي عن دول الاتحاد الأوروبي: "لم يخذلونا في هذه القضية".

ما هي مصلحة تركيا من هذا التقارب؟

تواجه تركيا تحديات كبيرة في الشرق الأوسط، إذ تحاصرها النزاعات المسلحة على حدودها مع سوريا والعراق. ويتزامن ذلك مع فتور علاقاتها من الولايات المتحدة خاصة بعد إعلان ترامب اعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل.

وتنتقد أنقرة واشنطن على دعمها لمليشيا وحدات حماية الشعب الكردي في سوريا، والتي تعدها تركيا من فروع تنظيم بي كاكا، الذي تصنفه هي والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي تنظيما إرهابيا. كما تطالب تركيا الولايات المتحدة بتسليم، فتح الله غولن، الذي تتهمه أنقرة بتدبير محاولة الانقلاب، دون جدوى.

ولعل آخر حلقة في تعقيد العلاقات بين واشنطن وأنقرة هو اتهام وزارة العدل الأمريكية للمصرفي التركي، هاكان أتيلا، بالضلوع في عمليات مصرفية هدفها خرق العقوبات المفروضة على إيران.

ولم يرد اسم أردوغان في لائحة الاتهام الأمريكية، لكن إدانة أتيلا لابد أنها تسيء إلى العلاقات بين البلدين.

ويعتمد أردوغان في علاقات بلاده مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على مبدأ "التوازن"، فعندما يشعر بأن واشنطن "تخلت عنه" لابد أن يلجأ إلى بروكسل والطريق إلى بروكسيل يمر عبر باريس.

وترى تركيا في ماكرون الرئيس البراغماتي الذي يبني علاقات بلاده على المصالح المتبادلة عكس "رؤساء فرنسا السابقين، على غرار ساركوزي وهولاند، وكذلك المستشارة الألمانية ميركل".

الاتفاق الجمركي

عندما أعلن وزير الخارجية الألماني، سيغمار غابريال، الأسبوع الماضي أن اتفاقا ذكيا لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سيكون نموذجا لدول أخرى تريد أن تكون لها علاقات أوثق مع الاتحاد الأوروربي، ولكنها ليست جاهزة للانضمام عليه، لابد أنه كان يقصد تركيا تحديدا وقد ذكرها بالإسم مع أوكرانيا.

وتسعى أنقرة من خلال تدفئة علاقاتها الأوروبية إلى تجديد وتوسيع اتفاقها الجمركي مع الاتحاد الأوروبي، خاصة بعد توقيع الاتحاد اتقافات تجارية جديدة مع الولايات المتحدة.

فالاتحاد الأوروبي هو أكبر متعامل تجاري مع تركيا بقيمة تعاملات تفوق 145 مليار يورو، ولا يمكن لأنقرة الاستغناء عنه.

تنويع مصادر الأسلحة.

سمحت القمة بين أردوغان وماكرون بتوقيع اتفاقية تصنيع نظام صواريخ بين الشركتين التركيتين أصيلصان وروكيتصان ومجمع يوروصام الفرنسي الإيطالي، تدعم في تركيا في تطوير برنامجها الصاروخي الخاص.

وكانت تركيا حصلت على نظام الدفاعات الروسية أس 400.

ما هي مصلحة فرنسا من التقارب؟

يتفق الأوروبيون على دور تركيا الكبير والاستراتيجي في منطقة الشرق الأوسط. فهي دولة إسلامية كبيرة، لها حدود مع سوريا والعراق، وهي أيضا عضو في حلف شمال الأطلسي، وهي بوابة الاتحاد الأوروبي خارج حدوده، كما لها علاقات دبلوماسية مع إسرائيل.

وقد أعلن ماكرون على موقفه من تركيا وضرورة التعامل معها كشريك ضروري، وعلى هذا الأساس يجري اتصالاته المستمرة مع أردوغان بشأن النزاع في سوريا والعراق منذ شهور.

وتشارك تركيا في مسار أستانا لحل الأزمة السورية مع إيران وروسيا التي تعتزم عقد اجتماع بين المعارضة والنظام السوري في مدينة سوتشي نهاية يناير/ كانون الثاني. ولمن ماكرون ينتقد هذا المسار الإيراني الروسي ويفضل المسار الذي بدأت الأمم المتحدة ويرى بأنه يوفر حلا دائما ومستقرا في المنطقة.

ويسعى الرئيس الفرنسي من خلال براغماتيته إلى كسب دعم تركيا للحل الذي تقترحه الأمم المتحدة، وضمان تعاونها الفعال في مسألة قطع الطريق أمام المتشددين العادئين من سوريا إلى بلاده وإلى أوروبا.

المحطة النووية

بلغت التبادل التجاري بين فرنسا وتركيا عام 2016، حسب الإحصائيات التركية، 14 مليار يورو، وهو رقم يأمل الطرفان في رفعه من خلال توقيع اتفاقات شراكة ثنائية واستثمارات تعود بالفائدة على البلدين.

وتحرص فرنسا على تسريع مشروع بناء محطة نووية في مدينة سينوب التركية على البحر الأحمر من قبل شركة أريفا الفرنسية وشركة ميتسوبيشي اليابانية. وهو مشروع يدعم الصناعة النووية الفرنسية ويوفر عائدات مالية ووظائف حكومة ماكرون في أمس الحاجة إليها.