الرباط: انتقد المفكر المغربي عبد الله العروي التصريحات التي أطلقها مغاربة عقب اكتشاف بقايا عظام لأقدم إنسان عاقل بموقع "جبل إيغود" (جنوب شرق الدار البيضاء)، مفادها أن الإنسان المغربي يمثل أصل البشرية خاصة أن العظام تعود إلى 300 ألف سنة.

وأضاف قائلا"هذا دليل على أنهم لا يفهمون الفرق بين النتيجة المحصل عليها وما يفرضه الواقع، وبالتالي فلا علاقة بين جبل إيغود وبيننا"، وذلك أثناء اللقاء العلمي الذي خصصته كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط الخميس، بتعاون مع معهد العالم العربي بباريس.

واعتبر العروي أن الباحث الذي يعتمد على الرواية الشفوية يصل إلى نتيجة مناقضة لتلك التي يؤطرها الخبير في الحفريات، في إشارة للتصور الذي تبناه البعض حول هذا الاكتشاف.

وعن مقاربته للعديد من المواضيع التي حملتها إنتاجاته الفكرية ومنها قضية المرأة والإرث على سبيل المثال، قال العروي"كل الكلام يجب ان يتمحور حول المنفعة سواء في قرار او قانون أو مقترح ما، فالمنظار الفردي للإرث كونه عقيدة لا يمكن أن تمس انطلاقا من تعاليم القرآن في هذا الإطار، فكل فرد يريد أن يبقى منسجماً مع عقيدته وقناعته، لكن دون إغفال المنظور المجتمعي التاريخاني، والذي يرتبط برغبة الإنسان في إثباته، سواء بوصية أو الإقرار طوعا بمبدأ المساواة في الإرث بين الذكور والإناث".

 

عبد الله العروي

 

وعبر العروي، عن فخره بهذا اللقاء الذي يعد تكريمًا لمساره الفكري، والتفاتة لجيل كبير من الحركة الوطنية مع جميع فروعها وتطلعاتها.

مشروع فكري

وأجمع مثقفون وأساتذة جامعيون على أهمية المشروع الفكري الذي يحمله العروي، من خلال اشتغاله على حقول معرفية متنوعة بشكل ينسجم مع الأهداف والمضامين البحثية التي تميز إنتاجات هذه الشخصية الفريدة من نوعها، والتي تمكنت بطبع زمانها بفضل التزامها الدائم بقضايا المجتمعات العربية.

وقال المتدخلون في اللقاء العلمي تحت عنوان"تلقي فكر العروي" إن الإنتاجات الخصبة التي أغنى بها العروي الخزانة المغربية لم تقف عند حدود المغرب العربي أو باقي الدول العربية، بل امتدت لتصل إلى مختلف دول العالم، ليصبح قيمة أساسية و مفخرة حقيقية للثقافة العربية.

وفي هذا الإطار، قدم جمال الدين الهاني، عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة محمد الخامس بالرباط، نبذة موجزة عن السيرة الذاتية للمفكر المغربي الذي يمتاز بتناوله للعديد من الأعمال العلمية والتاريخية والاجتماعية، مما أهله لحصد جوائز مختلفة من مختلف دول المعمور، آخرها تتويجه بجائزة "شخصية العام الثقافية"، خلال الدورة الحادية عشرة لجائزة الشيخ زايد للكتاب 2017، وذلك "لتبوّئه منزلة المؤسس لحراك فكري وثقافي، لم يتوقف تأثيره عند حدود الجامعات والمؤسسات العلمية، وإنما شمل مجالات الفكر السياسي العربي، وطبع كثيرًا من الممارسات الثقافية، فضلا عن انشغاله بأزمة المثقف العربي التي تعمق بدورها من أزمة المجتمع، الذي يحتل حيزًا مهمًا في إنتاجاته.

 

جانب من الحضور

 

واعتبر المتحدث أن العروي أنتج نصوصًا تعد من أعمق ما كتب في الفكر العربي، بمشروع جريء يدعو التوفيق بين مختلف الأنماط الفكرية، لتبقى الإشكالية المطروحة حول مدى فهم الإنتاج الفكري للعروي من قبل الجمهور المتلقي ومدى قابليته لاستيعاب مفهوم الحداثة، في ظل وجود مكونات عديدة للفكر العالمي، في علاقتها بالهوية المغربية في شقها الأمازيغي والصحراوي والعبري.

علامة فارقة في الفكر

وأفاد سعيد أمزازي، رئيس جامعة محمد الخامس بالرباط أن العروي بما بذله من جهود فكرية وإنجازات علمية يمثل علامة فارقة في الفكر العالمي المعاصر، وبصمة دالة في الفكر المغربي والعربي عموما، من خلال عمله في الفكر والفلسفة والسيرة الذاتية وغيرها، مما جعل أعماله تلاقي انتشارًا واسعًا وسجالاً كبيرًا في الحياة الثقافية، ليكون بذلك قدوة عظيمة للأجيال الصاعدة في المغرب والعالم العربي.

وطالب بضرورة الاعتراف بجهود المثقفين الذين يقدمون إنجازات قيمة لصالح وطنهم، تصبح دليلا جيدا بيد الطلبة الباحثين للنهل من تجاربهم ومعارفهم في مختلف الميادين.

وذكر معجب الزهراني، المدير العام لمعهد العالم العربي في باريس بأول لقاء جمعه عن طريق الصدفة بالمفكر عبد الله العروي، حينما كان طالبا في المهجر، مما جعله يعجب بشكل كبير بشخصيته وأسلوبه، ليصبح لاحقا مرجعًا رئيسيًا في البحوث التي يقوم بها طلابه، حيث دأب على نصحهم بمتابعة بعض الأعمال الفكرية المهمة من كل بلد عربي، ومنها إنتاجات عبد الله العروي، باعتبارها مصدرًا رئيسيًا للمعرفة يحتاجها أي كاتب أو مؤرخ.

وزاد الزهراني قائلا"هذه الشخصية البارزة تستحق التكريم في أوجه متعددة، صحيح أنه معروف على مستوى المغرب و دول المغرب العربي، لكننا في حاجة ملحة إليه في دول المشرق ليكون حاضرًا في مؤسساتنا وجامعاتنا".

وشمل لقاء تكريم العروي، بالرباط، تخصيص جلستين: الأولى تحت عنوان "العرب والحداثة"، بمشاركة المفكر عبد السلام بنعبد العالي بمداخلة تحت عنوان "الحداثة المتلكئة"، والروائي والباحث حسن أوريد بمداخلة تحت عنوان الحداثة السياسية العربية"، والباحث والناقد محمد الداهي بمداخلة تحت عنوان "فقدان الهالة".

مفاهيم وعراقيل

في سياق متصل، صرح عبد السلام بنبعد العالي، أستاذ جامعي أن التلكؤ صفة جوهرية في إشارة إلى المقاومة التي شهدتها كتب الحداثة، في ظل مرورها بأزمات تنكرت فيها لذاتها وعبرت عن عقوقها وانفصالها اللامتناهي مع مختلف المجريات التي تحيط بها، و اعتبر أن أغلب المتتبعين يختزلونها في مفاهيم ضيقة ومحصورة.

وأكد على وجوب ربط التنوير بالتحديث، لأن الاقتصار على التحديثات البنيوية لن تدفع المتلقي إلى التقدم نحو الأمام، وهو ما يطرح استشكالا واضحا وضريحا بالنسبة لموضوع الحداثة الذي يعرف بكونه حركة دؤوبة تطرح منطق التواصل وتتيح للتفردات فرصة الظهور، في شكل مفاهيم ومضامين تركز على المسالك المقطوعة، حسب تعبيره.

من جانبه، تناول حسن أوريد، المشاكل التي يتخبط فيها العالم العربي والتي سبق لمنظمة الأمم المتحدة الإشارة إليها في تقرير لها نشرته سنة 2002، يشمل مشاكل في السياسة والمجتمع والاقتصاد والثقافة وغيرها من التحديات الكبرى التي تواجه مختلف المجتمعات العربية على حد سواء.

ولم تخلُ القراءة السياسية التي قدمها أوريد من نظرة استشرافية إيجابية نحو المستقبل، على الرغم من التشاؤم الذي يفرضه الوضع في العديد من الدول حاليا، كالعراق وسوريا واليمن، و دعا إلى وقفة تأمل تستهدف كشف مختلف العيوب والعراقيل التي تحول دون تقدم الدول العربية، شريطة وجود وعي متكامل لدى القادة والمواطنين ووجود إرادة حقيقية لمواجهتها.

الحداثة الانتقائية

وقال محمد الداهي، أستاذ جامعي وناقد أدبي، إن مفهوم الحداثة لدى العرب عموما بقي حبيس المجتمعات مما يعوق اكتماله، في ظل حضره ضمن أنشطة جزئية، عكس ما يبدو عليه الأمر بالنسبة للدول الغربية، وهي المفارقة التي كرست سجالات تحوم حول الجدوى من استنبات الحداثة في تربة مختلفة، مما يثير الاستغراب بالبحث عن نسخة عربية للحداثة خارج سياقها الطبيعي، لتظهر الهوة الحضارية بين مختلف الفرقاء المعنيين.

وأفاد أن تناول الحداثة الانتقائية وتطبيق الصور الخاصة بها يترجم نوعًا من المعاكسة النقدية، خاصة أن الحداثة في شموليتها مرتبطة بالحاضر والحياة الحديثة بشكل أساسي.

وعن كيفية تعامل العرب معها، أضاف محمد الداهي أنها تولدت من مخاض العلاقة المتجددة مع الغرب عبر دخول نابليون بونابرت لمصر، ليواجه الفكر العربي حينها مشكلة مصيرية تحظى بالتفاعل مع ما تعيشه الحضارة وهو ما يصطلح عليه بـ"صدمة الحداثة".

وتناولت الجلسة الثانية موضوع "تلقي فكر العروي"، بمشاركة كل من الباحث في الفكر الفلسفي محمد الشيخ بمداخلة تحت عنوان "حضور مؤلفات العروي في الكتابات الأنجلوساكسونية: الإيديولوجية العربية المعاصرة نموذجًا"، والمؤرخ محمد العزوزي بمداخلة تحت عنوان "البعد الديداكتيكي في بناء المفاهيم عند عبد الله العروي"، والباحثة في الفلسفة والتاريخ خديجة الصبار بمداخلة تحت عنوان "صعوبة فكر عبد الله العروي أمام المتلقي"، ونيلسن ريكن أستاذ الفلسفة بجامعة برلين بألمانيا بمداخلة تحت عنوان "الوقتية، التاريخانية والسياسة".

خصوصية المجتمع

وفي هذا السياق، اعتبر ريكن أن كتابات العروي غيّرت لديه العديد من المفاهيم في شقها التاريخي والعقلاني، خاصة أنها إنتاجات مهمة تتجاوز حدود المغرب لتصل إلى كل أنحاء العالم، بفضل ترجمة العديد منها.

وأضاف ريكن قائلا"خصوصية المجتمع المغربي حاضرة دائما في إنتاجاته وهي طريقة جديدة لرؤية الحاضر المعاش بشكل مختلف، من خلال تيمتي التاريخ والسياسة المتلازمين بطريقة نقدية في إسهامات العروي والذي لطالما عمل على تبني مجموعة من القضايا التي تهم الإنسان بصفة عامة، دون إغفال الحديث عن الإسلام والعولمة والحداثة".

وأشارت خديجة الصبار، أستاذة جامعية في الفلسفة والتاريخ إلى البدايات التأسيسية التي دفعت المفكر المغربي إلى تحليل الأوضاع، خاصة أنه عاش في مغرب الأسئلة الجادة، ليستجيب بذلك لهاجس معرفي دون تحفظ وفي إطار فكري نقدي، ينبني على فهم دينامية الأحداث وتملك عدة انتقال الفلاسفة، بتفكير منطقي صارم، يقدم النظرية والمرجعية وينهل من المدارس الغربية، ويبذل جهدا كبيرا في تقريبه من القارئ، خاصة انه لا ينتظر من المتلقي الوصول لنتائج واضحة بسهولة.

وأشادت الصبار بدور العروي في الاهتمام بقضايا المرأة باعتبارها سببًا رئيسًا في تقدم مختلف الشعوب، حيث اهتم بأوضاعها وطرح إشكالية تحريرها وتوقها الدائم للانعتاق والمساواة مع الرجال في كل القطاعات.

في غضون ذلك، قال المؤرخ المغربي محمد العزري، إن خطاب العروي نقدي مركب يطرح أسئلة حول التواصل، تستحضر البعد الديداكتيكي دون أن يغفل تخصيص مؤلفات للتدقيق في بعض المفاهيم وتبسيط الخطاب قدر الإمكان، ليستطيع بجرأته أن يسهم في كثير من القضايا باعتماد منهج تفكيري تحليلي، يحتكم لمفاهيم العقل ويكسر الخيارات التوافقية فضلاً عن مفهومي الدولة والحداثة.

وأشار محمد الشيخ، أستاذ الفلسفة إلى أن سنة 1967 كانت حاسمة في تاريخ المغرب، بصدور مؤلف "الإيديولوجيا المعاصرة" للعروي والذي لاقى استقبالاً باذخاً مغربياً وعالميا، لكنه لا يخلو من تسجيل مفارقتين، أولهما تهم كيفية تلقي الجمهور المستقبل للكتاب الذي شكل حالة غريبة، لأن مؤلفه يقوم بدور المصلح في الآن نفسه، و ثانيها، عدم توفر نسخة مترجمة للغة الإنجليزية، رغم أن بعض مؤلفاته ترجمت لهذه اللغة.

واستحضر الشيخ مسار العديد من الأدباء العرب والأجانب الذين تأثروا بالمفكر المغربي عبد الله العروي، وهو ما تجسد بشكل ملموس من خلال الإشارة إليه في المؤلفات التي قدموها لاحقًا، والتي أجمعت في مجملها على الاعتراف بمجهوداته الفكرية كمفكر عالمي رائد واستثنائي بكل المقاييس.