عبر ثمانية عقود هي عمر القسم العربي لبي بي سي، قيل عنها الكثير، ولمعت من خلالها أسماء كثيرة في عالم الصحافة والإعلام، واتفق البعض واختلف البعض الآخر على التزامها بمبادئها الأساسية في المصداقية والدقة والحيادية والاستقلالية، لكن ما لا يمكن لأحد الاختلاف عليه هو الحضور المميز للمرأة الذي حرصت بي بي سي عليه عبر مشوارها المهني.

من المحزن عدم وجود أرشيف يرصد بدقة كل مشاركة نسائية منذ بدايات القسم العربي لهيئة الإذاعة البريطانية، والعزاء الوحيد هو أصوات بقيت في الذاكرة لا يمكن نسيانها.

عبارة يذكرها الكثيرون،"نشرة الأخبار من هيئة الإذاعة البريطانية تقرأها عليكم مديحة رشيد المدفعي" ونبرة صوت محفورة في ذاكرة الكثيرين.

منذ بدايات العقد السادس من القرن الماضي، حين كانت قراءة نشرات الأخبار، وتقديم البرامج السياسية حكرا على الرجال، خاضت مديحة رشيد المدفعي هذا المضمار وحققت نجاحا وشهرة تضاهي ما حققه زملاؤها الذكور.

وبدأت مديحة قراءة نشرات الأخبار في القسم العربي لهيئة الإذاعة البريطانية قبل إدخال الخدمة العالمية الأم الناطقة باللغة الإنجليزية للعنصر النسائي في قراءة الأخبار بخمسة عشر عاما.

لم يكن سهلا ذلك التحدي الذي أخذته على عاتقها، وكأول مذيعة أخبار أرادت أن تثبت أن الكفاءة والجدارة لا ترتبط بجنس ولا تقتصر على جنس دون الآخر.

وهكذا حين قررت إعداد برنامج وثائقي في أواسط الثمانينيات، أرادت التجهيز له بشكل كامل، مدفوعة بهاجس التميز والتفوق، ورغم أنها تحمل إجازة في الصحافة والعلوم السياسية من الجامعة الأمريكية في القاهرة، التحقت بدوام جزئي في جامعة لندن وحصلت على شهادة الدكتوراه في العلوم السياسية.

وقدمت مديحة المدفعي مسلحة بالمعرفة الواسعة والبحث الدقيق برنامج النقاش الساخن "الرأي الآخر" الذي يعد من أهم البرامج السياسية في تاريخ الإذاعة. كما قدمت سلسلة وثائقية في برنامج "بانوراما" تميزت بتنوع مواضيعها ولاقت حظوة كبيرة لدى المستمعين حينها.

اجتمع كل من أسعفه الحظ بالعمل معها في بي بي سي قبل تقاعدها على تميزها، وشخصيتها القوية وحرصها الشديد على عملها، لتقدمه للمستمعين بالصورة المثلى. وتدين لها الكثيرات ممن تبعنها بكسر القالب النمطي الذي يضع المذيعات الإناث في إطار البرامج الترفيهية فقط.

وبطبيعة الحال فكرة التأطير في حد ذاتها تجعل تلك البرامج، بصورة أو بأخرى، تبدو وكأنها أقل أهمية، لكن ذلك بالتأكيد ليس دقيقا.

وهذا بالتحديد ينقلنا لتجربة نسائية أخرى لرائدة أخرى، تركت بصمة مهمة، وأثبتت أن البرامج الترفيهية يمكنها أن تحمل قيمة ثقافية عالية.

إنها ليلى طنوس التي قدمت برنامج "الدراما" الذي نقلت فيه كمخرجة مختارات من عيون الأدب الإنجليزي إلى اللغة العربية، ولقي البرنامج إقبالا واسعا وكان يتمتع بشعبية كبيرة طيلة سنوات بثه.

لم يقتصر تميز ليلى طنوس على الصعيد المهني، وإنما أيضا على المستوى الإنساني، فقد شغلها حفاظ المغتربين على لغتهم الأم، في وقت كان يعاني أبناء الجالية العربية من صعوبة الحفاظ على لغتهم، فما كان منها إلا أن دشنت مشروع مدرسة اللغة العربية، التي تعلمت فيها أجيال من المغتربين العرب لغتهم الأم على مدى أكثر من ربع قرن.

كثيرات كن اللاتي تركن بصمات من جيل الأوائل، كعبلة خماش واسعة الثقافة التي عرف عنها إجادتها للغة الإنجليزية كإجادتها للغة العربية، وأولغا جويدة التي اشتهرت بتقديم البرامج الثقافية خاصة برنامجها "نصف ساعة مع أولغا جويدة".

مرحلة عنوانها "التحديث"

وشهدت فترة آواخر السبعينيات وبداية الثمانينيات انضمام مجموعة كبيرة من النساء للقسم العربي في بي بي سي. في تلك المرحلة كان يبدو أن هنالك رغبة متزايدة في بي بي سي للتجديد والتحديث ومواكبة روح العصر.

وهكذا امتازت تلك الفترة بتنوع وغنى كبيرين في المشاركات النسائية، وبرزت أسماء مثل سلوى الجراح وهالة صلاح الدين وسامية الأطرش ونادية صالح وعفاف جلال وغيرهن الكثيرات من صاحبات الأصوات العذبة التي طبعت تلك المرحلة من عمر بي بي سي.

هدى الرشيد
BBC
هدى الرشيد

من الأسماء التي انضمت أيضا في تلك المرحلة هدى الرشيد، التي كانت أول مذيعة للأخبار من المملكة العربية السعودية. وكان انضمامها لهيئة الإذاعة البريطانية ينطوي على الكثير من الجرأة وهي القادمة مجتمع محافظ إلى حد كبير، لتثبت بدعم من أسرتها، أن المرأة قادرة على تحدي المفاهيم البالية التي تهدف إلى تكبيلها وتحجيم إمكاناتها.

ومع تلك التغيرات بدأت موجة جديدة من البرامج التي بدت مواكبة لروح العصر، وظهر لأول مرة برنامج يعنى بموسيقى البوب، تحت عنوان "توب أوف ذي بوبس".

وبدأت أشكال جديدة من البرامج تقدمها في الغالب نساء، مثل برنامج "ساعة حرة" و"البرنامج المفتوح" اللذين تميزا بالكثير من الارتجال والابتعاد عن الجدية التامة والرصانة الشديدة التي لطالما تبنتها بي بي سي، مع الحرص على المستوى العالي دون ابتذال أو إسفاف.

لا شك أن تلك البرامج قد نقلت تلك الإذاعة إلى أسلوب أقل تزمتا وأكثر مرونة خاصة مع بداية تجربة التفاعل المباشر مع المستمعين عبر الهاتف.

حين نتحدث عن التغيير والتجديد في تلك المرحلة، لا يمكن أن نغفل اسما بعينه، ولا يمكننا المرور به مرور الكرام. فإذا كان لمديحة المدفعي فضل تحدي التنميط وكسر القوالب الجاهزة منذ بدايات مشاركة المرأة في بي بي سي، فلسلوى الجراح حتما الفضل في التصدي لأحد أعقد تابوهات العالم العربي.

ففي التسعينيات قدمت سلوى الجراح، برنامجا من أكثر البرامج جرأة تحت عنوان "عن الجنس بصراحة". تناولت سلوى في هذا البرنامج الكثير من القضايا والمشاكل الجنسية المسكوت عنها في العالم العربي، وقدمت نصائح مفيدة مستعينة بخبراء وأطباء بكفاءات عالية.

البرنامج كان جريئا وفريدا بكل المقاييس، إذ أنه قد طرح قضايا لم يكن حتى الإلماح لها مقبولا في ذلك الوقت، كالمثلية الجنسية والتحول الجنسي.

وتقول سلوى الجراح، التي انضمت إلى بي بي سي أواخر سبعينات القرن الماضي، إنها راضية تماما عن أداء النساء في بي بي سي من بنات جيلها وممن سبقنهن.

لكنها لم تخف عدم رضاها عن واقع عدم شغل أي امرأة، إلى أن غادرت هي بي بي سي على الأقل، لمنصب إداري.

لسلوى الجراح كل الحق في عدم الرضا ذاك، لكن مما لاشك فيه أن كل اللاتي شغلن مناصب مهمة في القسم العربي لبي بي سي بعد ذلك، لم يكنّ ليحققن أيا مما حققنه لولا الرائدات ومواجهتهن لكل التحديات، وعملهن الدؤوب وإنجازاتهن التي أحدثت فرقا ومهدت الطريق لتمكين بنات جنسهن وإيصالهن لما وصلن إليه وحققنه اليوم.