ايلاف من برلين: في الواقع، يكفي للإنسان أن يجلس لساعات وحده في الظلام كي يشعر بالاكتئاب والرهبة. ولا غرابة أن ارتبط عصر النهضة الصناعية بالمصباح الكهربائي، لان العيش لفترة طويلة في اضاءة خافتة قد يسبب الغباء، بحسب دراسة أميركية جديدة.

وتقول الدراسة التي نشرت في مجلة "هايبوكامبوس" أن تربية فئران الاختبار لفترة طويلة على العيش في اضاءة خافتة لم تحدث تغييرات على ذاكرتها وذكائها فحسب، وانما تسببت في تغييرات تشريحية ظاهرة في منطقة الهايبوكامبوس "قرن آمون" في الدماغ.

ومعروف في الطب ان منطقة قرن آمون تلعب دوراً مهماً في اكتساب المعلومات وخزن المعارف وقدح الذاكرة واستعادتها. وهو ارتفاع مطول دائري يظهر في القرن الصدغي للبطين الجانبي للدماغ ويتكون من منطقة غير عادية من قشرة الدماغ. وهو أقدم من ناحية التطور من بقية مناطق الدماغ، ومغطى بطبقة من الألياف النخاعية على سطحها البطيني.

اقامة الدليل على ضرر الظلام

وكتب الباحث جون سولر وزملاؤه، من جامعة ميشيغان الأميركية في ايست لانسنغ في مجلة "هايبوكامبوس"، انهم وجدوا الدليل على أن العيش لفترة طويلة في شبه ظلام قد يؤدي إلى الغباء.

ولهذا الغرض وضع سولر وزملاؤه فئران حقول افريقية من فصيلة Arvicanthis niloticus لمدة أربعة أسابيع في اضاءة ضعيفة طوال النهار. واستخدم العلماء ضوءاً خافتاً من قوة 50 لوكس في التجربة، وهي اضاءة "تعادل النور في يوم شتائي معتم، أو اضاءة خافتة في غرفة منزل"، بحسب الباحث انتونيو نونيز الذي شارك في الدراسة.

وكانت النتيجة ان الفئران صارت تفشل بعد الفترة المظلمة في امتحان التأقلم مع المكان. وصارت الفئران تنسى مكان منصة للطعام وضعت تحت الماء. وعادة تنجح الفئران التي تعيش في ضوء طبيعي في هذا الامتحان بسهولة. ويثبت هذا النسيان ان الضوء الضعيف أثر كثيراً في ذاكرة الفئران رغم قصر فترة العيش فيه.

تغييرات ظاهرة في الدماغ

وحينما بحث العلماء عن تأثيرات الضوء الخافت على الدماغ عثروا على هرمون نمو BDNF Brain-derived neurotrophic factor أقل بكثير في منطقة "قرن آمون". ويعزز هذا الهرمون في الحالة الطبيعية نمو الخلايا العصبية والتشبك العصبي العضلي في الدماغ، وهي عملية أساسية في تطور المعرفة وتراكمها.

 

زوائد شوكية أقل (النقاط الخضراء) في الخلايا العصبية قبل وبعد عيش الفئران في ضوء خافت - جامعة ميشيغان

 

وتحت المجهر ظهر ان الخلايا العصبية في منطقة "قرن آمون" احتوت على زوائد شوكية أقل مما كانت قبل التجربة. ومهمة هذه الزوائد الشوكية هي ربط الخلايا العصبية ببعضها، كما انها تتحكم إلى حد ما بالايعازات العصبية. بمعنى آخر ان هذه الزوائد الشوكية مسؤولة عن "الاتصالات" بين النيورونات (الخلايا العصبية).

وكتب سولر ان هذه التغييرات في منطقة "قرن آمون" أثرت سلباً في قدرة المنطقة على القيام بوطائفها الأساسية التي تتعلم بالتعلم وخزن المعارف وحفظ الذاكرة. واضاف ان هذا قد يفسر لماذا يفشل البعض في العثور على سيارته في مرآب قليل الضوء بعد أن تجول لعدة ساعات في متجر قليل الاضاءة.

استعادة الذاكرة والذكاء

الخبر السار في التجربة هو أن إعادة الفئران للعيش في اضاءة طبيعية وكافية اعادت لها قدرتها على التذكر والتأقلم.

ويقول سولر، بعد انتهاء تجربة الضوء الخافت البالغة أربعة اسابيع، اعيدت الفئران للعيش في اضاءة طبيعية من قوة 1000 لوكس لمدة أربعة اسابيع أخرى. وكانت النتيجة ان الفئران لم تستعد ذكاءها وذاكرتها ونجحت في امتحان التأقلم فحسب، وإنما اختفت أيضاً التغييرات التي سجلت في منطقة "قرن آمون" وعاد الدماغ إلى طبيعته.

ورغم اقامة الدليل على تأثير الضوء الخافت على الذكاء والذاكرة، يعترف فريق العمل من ميشيغان بأنهم يجهلون الكيفية التي يؤثر فيها الضوء على الخلايا العصبية في "قرن آمون". 

أسباب غير معروفة

وكتب سولر انهم لا يستطيعون سوى التكهن بالسبب، وهو ان الضوء ينشط الخلايا العصبية في الهايبوثالاماس (الوطاء) المسؤولة عن فرز هرمون آخر هو "اوريكسين" يلعب دوراً مهماً في مختلف الأنشطة الدماغية التي تتعلق بالمعارف والذاكرة.

ويمكن للكشف عن العلاقة بين الضوء الخافت والذكاء ان يفيد في معالجة الكثير من الأمراض مثل "العين المعتمة". إذ من الممكن كمثل زرق الإنسان بهرمون "اوريكسين" لمعالجته من مضاعفات العتمة أو من الاضرار التي لحقت بدماغه بسبب العيش لفترة طويلة في الظلام.

لهذا السبب سيركز فريق العمل في التجارب المقبلة على معرفة علاقة "اوريكسين" بالغباء الناجم عن قلة الضوء. وسيجرون تجارب يبقون فيها الفئران لفترة طويلة في ضوء خافت ثم يزرقونها بهرمون"اوريكسين"، وهي لا تزال في الظلام، وملاحظة ما إذا كان ذلك سيعيد إليها ذاكرتها التي فقدتها.