لندن: يتعذر تقديم الجانب الاميركي من الحرب الباردة دون تتبع حياة زبيغنيو بريجينسكي، أحد صقور تلك الحرب، وهنري كيسينجر، أحد اقطابها. وكان الاثنان المولودان بفارق خمس سنوات بينهما، أحدهما في المانيا والآخر في بولندا، هيمنا على "جامعة الحرب الباردة" من الطرف الاميركي في خمسينيات القرن العشرين وستينياته.

يعرفان الكثير

لم يفقد أي منهما لكنته الأوروبية. احدهما أدار السياسة الخارجية للرئيس الجمهوري ريتشارد نيكسون والآخر للرئيس الديمقراطي جيمي كارتر. وتمكن الاثنان من كسر احتكار البيض الانكلو سكسونيين البروتستانتيين (واسب WASP كما كان يُسمى الفرد الذي ينتمي إلى هذه الأصول) لمؤسسة السياسة الخارجية بسبب حاجة اميركا إلى اشخاص يفهمون روسيا. وكانت النكتة المتداولة عن هذه النخبة الواسبية تذهب إلى انه "لم يسبق أن وُجد هذا العدد الكبير ممن يعرفون هذا النزر اليسير عن أمور بهذا القدر الكبير".

على النقيض من هذه النخبة كان كيسينجر وبريجينسكي يعرفان الكثير، الأمر الذي يزيد من غرابة الحقيقة الماثلة في أن كتاب "زبيغنيو بريجينسكي: مخطط اميركا الاستراتيجي الكبير" Zbigniew Brzesinsky: America’s Grand Strategist (ترجمة كاثرين بورتر، منشورات جامعة هارفارد، 544 صفحة) هو أول سيرة حياة كاملة له باللغة الانكليزية (هناك سيرة حياة بالبولندية) في حين هناك 12 كتابًا عن كيسينجر. والأكثر من ذلك أن سيرة حياة بريجينسكي مترجمة من الفرنسية. وكاتبها جاستن فيس رئيس قسم تخطيط السياسات في وزارة الخارجية الفرنسية.

من أسباب هذا الخلل في التوازن بين ما كتُب عن بريجينسكي وما كتُب عن كيسينجر، الرئيسان اللذان عملا في ادارتيهما. وُصف نيكسون بالعبقري الميكيافيلي لنجاحه في فك ارتباط الصين بالاتحاد السوفياتي في عام 1972. من جهة أخرى، يُذكر كارتر لفشله في أزمة الرهائن مع إيران خلال الفترة 1979 - 1981. السبب الآخر هو شخصيتهما. فكيسينجر كان يعشق الأضواء والتعامل مع الصحافة في حين أن بريجينسكي كان يقرب من "الإهمال" في عدم اكتراثه بالإعلام، كما يكتب فيس. وصدرت مذكرات كيسينجر بنحو 4000 صفحة مقارنة بنحو 573 صفحة جمعت مذكرات بريجينسكي.

10 أفكار كل ليلة

كان كيسينجر استاذًا في التملق في حين كان بريجينسكي الذي توفي في عام 2017 عن 89 عامًا صريحًا إلى حد أضر به.

كانت قدرة بريجينسكي على التحلي بالموضوعية موضع شك دائم. لم يكن مستغربًا أن مسؤولين من القيادات التقليدية في مؤسسة السياسة الخارجية دعوا كارتر إلى عدم تعيين بريجينسكي مستشاره لشؤون الأمن القومي.

كان أحد هؤلاء سايروس فانس الذي أصبح وزير خارجية كارتر، وكان بريجينسكي دائمًا يتفوق عليه في المراوغة. فحين سُئل كارتر لماذا يسمح له بتهميش فانس، أجاب: "لأن زبيغنيو كان يرسل إلي 10 أفكار في كل ليلة، وأكون محظوظًا إذا تلقيت فكرة واحدة في الشهر من وزارة الخارجية".

حددت أفكار بريجينسكي شكل التاريخ سواء أكان ذلك للأفضل أو الأسوأ. من هذه الأفكار اتفاقية كامب ديفيد بين إسرائيل ومصر. كما سعى بريجينسكي إلى الانفراج مع السوفيات والضغط من أجل حقوق الإنسان وراء الستار الحديدي.

يقول فيس أن تشديد كارتر على حقوق الانسان ودعم بريجينسكي لأدب المعارضة السري في الكتلة السوفياتية لا ينالان الاعتراف الكافي بدورهما في انهيار الاتحاد السوفياتي.

على الغرار نفسه، يستحق بريجينسكي قدرًا أكبر من الثناء لإنجاز تطبيع العلاقات الأميركية مع الصين.

علامات جيدة

من ناحية السلبيات، يُحمَّل بريجينسكي قسطًا من المسؤولية لمساعدته في ظهور إرهاب التطرف الاسلامي بسبب دعمه المجاهدين ضد السوفيات في افغانستان. وجرى تصويره حاملًا كلاشنكوف على الحدود الأفغانية - الباكستانية.

الأهم من ذلك كانت أزمة الرهائن في إيران التي أسهمت في هزيمة كارتر أمام رونالد ريغان في عام 1980. وكان بريجينسكي من المتحمسين لعملية إنقاذ الرهائن الفاشلة في أبريل من ذلك العام.

لكن إجمالًا، فإن فيس يعطي بريجينسكي علامات جيدة. فما من مستشار، باستثناء كيسينجر، هيمن على أجندة رئيس أميركي كما هيمن بريجينسكي. وكان عقله حادًا بحدة لسانه. ونادرًا ما تراجع نفوذه لاحقًا. في عام 2008، طلب المرشح باراك أوباما أن يقدمه لإلقاء خطاب مهم. وهو الذي نصح أوباما ألا يعينه مستشارًا لأن ذلك قد يستعدي عليه اللوبي المؤيد لاسرائيل. فان أقاويل العداء للسامية كانت تلاحق بريجينسكي بسبب أصوله البولندية, يرفض فيس ذلك قائلًا إنه تشهير محض.

في التسعينيات، دعا اصدقاء بريجينسكي إلى ترشيحه للرئاسة البولندية. لكنه رفض مؤكدًا أن اميركا هي وطنه. وكما قال احد زملائه: "أميركا مكان يستطيع رجل اسمه زبيغنيو بريجينسكي أن يشتهر حتى من دون أن يغير اسمه".

 

أعدت "إيلاف" هذا التقرير عن "فاينانشيال تايمز". الأصل منشور على الرابط:

https://www.ft.com/content/2e21f512-26ed-11e8-b27e-cc62a39d57a0