«إيلاف» من الرباط: وسط حضور وازن، انطلقت الثلاثاء، فعاليات الدورة ال 45 لأكاديمية المملكة المغربية، التي تناقش موضوع: "أميركا اللاتينية أفقا للتفكير"، على امتداد ثلاثة أيام بمقر الأكاديمية في العاصمة الرباط، حيث سيناقش أكاديميون وباحثون من مختلف أنحاء العالم آفاق تطوير وتعزيز الروابط الثقافية والإنسانية بين المغرب وبلدان أميركا اللاتينية.

وقال عبد الجليل الحجمري، أمين السر الدائم لأكاديمية المملكة المغربية، إن المشروع العلمي والفكري للأكاديمية يروم طرق "قضايا ملحة في واقع مركب الأبعاد يطرح أمامنا جملة من المخاوف وغير يسير من الآمال نحيا بها عالما".

وأضاف الحجري ، في كلمة بالمناسبة، أن العالم تحكمه "تحديات اللااستقرار والنزاع العنيف حول منظومة القيم، والغيرية، وقبول العيش مع الآخر"، مؤكدا سعي المغرب نحو "التسامح والتعاون، والحوار المنعش للمكتسبات المشتركة في ظل الخصوصية الثقافية"، والتي اعتبرها مصدر "ثراء بعيدا عن كل يقين سياسي متسلط".

وأكد أمين السر الدائم لأكاديمية المملكة المغربية أن عملها يستند على قناعة راسخة تعتبر أن "التنوع الثقافي والفكري مصدرا من مصادر إنتاج معرفة بتاريخنا وحاضرنا ومستقبلنا"، وذلك بعيدا عما سماه "تبدلات الإيديولوجيات وخطابات المنابر المكرورة والهرمة"، حسب تعبيره. 

وسجل الحجمري أمام العشرات من المفكرين والسفراء الأجانب والمسؤولين المغاربة بأنه ينظر لأميركا اللاتينية بوصفها "آفاقا للتفكير لا أفقا للتفكير"، موضحا أنه اعتبارا للروابط التاريخية والعلاقات الثقافية التي تجمع المغرب والعالم العربي وإفريقيا لبلدان أميركا اللاتينية.

كما أشار المسؤول المغربي إلى أنه مقتنع ب"الريادة المتعددة الأبعاد لاميركا اللاتينية"، مستشهدا بالنجاحات التي تسجلها بلدانها في مجالات "التنمية والاقتصاد الصاعد، وفي التحولات الاجتماعية والسياسية والثقافية المتلاحقة، وفي سياسات الاندماج الإقليمية والقارية الموقعة بالرغم من الصعوبات والمفارقات ومختلف التجاذبات محليا وقاريا ودوليا".

وزاد الحجمري مبينا أسباب اختيار الاكاديمية لأميركا اللاتينية أفقا للتفكير، حيث قال إنها تمتلك "تاريخا معاصرا غنيا بالتجارب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإبداعية، لها قابلية استخلاص الدروس وتطوير المناهج المعرفية"، مشددا على أن التظاهرة العلمية تروم تعميق المعرفة ومأسستها وتبادلها بين المغرب وأميركا اللاتينية في الاتجاهين، بالإضافة إلى العالم العربي وإفريقيا التي يمكن أن يلعب المغرب دورا رئيسا فيها.

ولم يخف الحجمري إعجابه بالتجربة اللاتينية وما حققته بلدانها من انتقال ديمقراطي حقيقي، حيث أبرز أنها تخلصت من "الديكتاتوريات بعد التحرر من الاستعمار الأوروبي في وقت وجيز وأنهت الحروب والنزاعات الداخلية المسلحة"، مؤكدا أن تجربتها "تظل ملهمة، وفي حاجة إلى إعادة قراءة وتأويل".

وأردف المتحدث ذاته بأن نجاح دول أميركا اللاتينية في إنجاح الانتقال الديمقراطي "أثمر النجاح في ابتكار وتفعيل نماذج تنموية صاعدة ورائدة، واستقرارا سياسيا واندماجا اجتماعيا إقليميا ووطنية وقاريا"، وأبرز بأنها اختارت نهج سياسات جديدة، قوامها "التفاوض والتوافق في فض النزاعات، وبناء منظمات ومؤسسات اقتصادية وتجارية ومالية إقليمية وقارية هدفها تقوية التعاون وتعزيز القدرة التنافسية لبلدان أميركا اللاتينية".

وأشار الحجمري إلى أن المغرب لديه رغبة ملحة في أن يكون التعاون جنوب - جنوب سبيلا للحد من التبعية والفكر النقدي التحرري تجاه العولمة والحداثة، "سبيلا مؤديا لانبثاق عالم متعدد الأقطاب، قادر على مواجهة كل ظرفية اقتصادية طارئة، بتحديات مستجدة يتم رفعها اجتماعيا وتربويا ومعرفيا".

وأعرب أمين السر الدائم لأكاديمية المملكة المغربية عن أمله في أن تسهم الدورة ومخرجاتها في تطوير الصلات الثقافية والفكرية بين المغرب وأميركا اللاتينية والارتقاء بها إلى الأفضل، وشدد على أن الأكاديمية تمد "جسر حوار وتواصل ثقافي وفكري لا نظير له، هو أعز ما يطلب وأفضل وصفة للتطلع إلى غد مشرق عساه لا يفوت".

حضور مغربي قوي في اميركا اللاتينية 

من جهته، قال أندريه أزولاي، مستشار العاهل المغربي الملك محمد السادس، إن بلاده تمتلك حضورا "قويا" في بلدان أميركا اللاتينية، مؤكدا أن عددا من اليهود المغاربة يترأسون الطائفة اليهودية بعدد من بلدان القارة، من بينها المكسيك والشيلي والبرازيل والأرجنتين.

وأضاف أزولاي في مداخلة ألقاها بالمناسبة، أن اليهود من أصل مغربي عاشوا على طول نهر الأمازون، مؤكدا أنه "حصل مزج إثني بين اليهود المغاربة والسكان الأصليين بأميركا اللاتينية، ومن نتائجه حضور قوي للشخصية المغربية بالمنطقة، التي يعشن بها بنات يتحدثن اللغة العربية"، اعتبرهن من "ثمار هذا التلاقح".
وأفاد أزولاي بأن المجتمع المغربي "مسلم وبه مواطنون مغاربة يهود ومن أقليات أخرى"، مبرزا أن هذا الأمر يعد مصدر فخر وإعجاب بالنسبة له، حيث قال "ينتابني الكثير من الإعجاب عندما أسافر إلى مختلف مناطق العالم".

تعطش للانفتاح على الآخر

وزاد أزولاي مبينا أن الإشراقات الأندلسية "نتقاسمها جميعا وهي مجال لتعزيز انتماءاتنا الوطنية في المنطقة، والتي تنمحي فيها الانتماءات الثقافية واللغوية"، مشددا على أنه يدافع عن فكرة "توطيد الانتماءات الثقافية والحفاظ على الخصوصيات المغربية، وهذا ليس تعصب أو غلو وإنما هو من صميم شخصيتنا بروافدها المتنوعة".

وأكد مستشار الملك محمد السادس بأن المغاربة "متعطشون للانفتاح على الآخر"، وأضاف "تاريخنا ليس بالأسود والأبيض فقط، بل بكل ألوان الطيف وهذه ميزة حضارتنا المغربية وهذا ما يجعلنا هنا وهناك".

كما وجه أزولاي انتقادا ضمنيا لمناهج التربية والتعليم ببلاده، حيث قال: "أجد بعض الضعف الذي ميز المغاربة عبر التاريخ والكتب التي تدرس لأبناءنا، لا نجد أن هناك يهوديا مغربيا ساهم في إعداد أول قانون ناهض الاسترقاق في الولايات المتحدة الأمريكية مثلا".

وأفاد المتحدث ذاته، بأن التاريخ الذي يدرسه التلاميذ المغاربة "لا يعكس الروافد الحضارية لتاريخنا الحقيقي"، وذلك في دعوة غير مباشرة منه إلى استحضار إسهامات اليهود المغاربة في تاريخ البلاد ودمجها في الكتب المدرسية.

بدوره، قال الأمير الحسن بن طلال، عضو أكاديمية المملكة المغربية، في كلمة ألقاها نيابة عنه محمد الكتاني، أمين السر المساعد للأكاديمية، إن الهوية العربية "كانت دائما منفتحة على التعدد".

ولفت الامير بن طلال إلى أن جوهر الثقافة العربية "لا يتناقض مع التنوع الديني والإثني الذي احتضنته الأمة عبر التاريخ"، معتبرا أن التعددية "دينامية مهمة تتيح التجدد والإبداع في المجتمعات الإنسانية وتشكل عنصرا أساسيا للإغناء الحضاري، الذي تحتاج إليه البشرية من أجل احتواء التنوع".

وشدد الأمير الحسن بن طلال على وجود تشابه بين الدول العربية ونظيرتها في اميركا اللاتينية، حيث أرجع ذلك إلى الماضي المشترك في التجربة الأندلسية، مطالبا بتعزيز مفاهيم الحوار والاعتراف بتنوع الثقافات والأديان والحضارات.

أما الشاعر المكسيكي، ألبيرطو روي سانشيز، فطالب من جهته، بضرورة تعزيز العلاقات الثقافية جنوب-جنوب، وفتح آفاق جديدة للتعاون بين المنطقتين، مؤكا أن "ما ننتظره من الآفاق الجديدة هو تغيير تجربتنا". 

وأضاف سانشيز، أن هناك "مجموعة من الأماكن التي تأسر الإنسان، وتجعلنا نغير بعضا من نظرتنا إلى الآخر حين نعيش هذه التجربة، والتي هي في الحقيقة غير مرتبطة بزمان معين"، معتبرا أنه "حين نسافر تعترينا رغبة جامحة في التعرف أكثر على الناس ويتملكنا حب التطلع والتواصل".

وأكد الشاعر المكسيكي وجود أمور كثيرة مشتركة تجمع بين المغرب والمكسيك، مثل الصناعة التقليدية، حيث قال: "أجدادنا اشتغلوا بنفس الأدوات في الأندلس، وهذا التقارب يمكن أن يلعب دورا مهما في العلاقات الثقافية بين المغرب والمكسيك، وسيساعدنا على تبني ملف مشترك للحفاظ على هذه الصنائع التقليدية"، حسب تعبيره.

وعرف افتاح الدورة حضورا وازنا يتقدمه مستشارو العاهل المغربي الملك محمد السادس، عمر عزيمان، وعباس الجيراري، بالإضافة إلى رئيس مجلس النواب لحبيب المالكي، وكاتب الدولة ( وزير دولة)،المكلف التعليم العالي والبحث العلمي خالد الصمدي، والأمين العام السابق للحكومة، إدريس الضحاك، والعلامة مصطفى بنحمزة، عضو المجلس العلمي الأعلى، وعثمان التويجري المدير العام لمنظمة الإيسيسكو، وعدد من الشخصيات السياسية والأكاديمية الأخرى.