لم تكد أعمال الهدم والإزالة تتوقف منذ أن دخلنا إلى منطقة مثلث ماسبيرو، وهو حي عشوائي يقع في قلب القاهرة، ويطل على نهر النيل بالقرب من الكثير من الأماكن الحيوية، مثل مبنى الإذاعة والتليفزيون المصري، ومقر وزارة الخارجية.

وتعمل الدولة على قدم وساق لإزالة أعداد كبيرة من المنازل والمتاجر، استعدادا لتسليم هذه المنطقة لمجموعة من الشركات الاستثمارية.

"هذه هي أغلى أرض في مصر" كما قال أحد الأهالي. فالأرض في مثلث ماسبيرو هي من بين الأعلى سعرا في البلاد، إذ تقدر قيمتها بملايين الدولارات. وجذب موقعها الاستراتيجي الكثير من المستثمرين المصريين والعرب والأجانب، الذين يأملون في استغلاله لإقامة مشروعات ضخمة.

تجولنا في الحي العشوائي الذي كانت تعيش به أكثر من أربعة آلاف أسرة. ولاحظنا أن العدد الأكبر من العائلات قد رحل، ومن تبقى بات في طريقه إلى الرحيل.

وتقول السلطات إن إخلاء مثلث ماسبيرو ينقذ الأهالي من مساكن قديمة متهالكة، تمثل تهديدا مستمرا لحياته. وعرضت الحكومة على السكان عدة بدائل كي يتركوا منازلهم، منها الحصول على تعويضات مادية، أو شقق بديلة في مناطق أخرى، أو العودة لمثلث ماسبيرو بعد تطويره خلال ثلاث سنوات، مع الحصول على إعانة سكن خلال تلك الفترة.

شكاوى الأهالي

لكن الكثير ممن التقيناهم من سكان الحي بدوا غاضبين من البدائل التي طرحتها الدولة، ويشكون من قلة مبالغ التعويضات والإعانات.

وتقول سيدة في منتصف الثلاثينيات، وقد احمر وجهها وبُح صوتها من شدة الغضب: "لا يتجاوز إيجار شقتي هنا جنيها واحدا في الشهر. أبحث الآن عن سكن فلا أجد إيجارا شهريا يقل عن تسعمائة جنيه (نحو 50 دولارا). كيف لي أن أدفع مبلغا كهذا وزوجي عامل بسيط؟!"

لم تكد المرأة تنهي حديثها حتى قاطعتها سيدة أخرى تحمل طفلا رضيعا على كتفها. كانت تصرخ أكثر مما تتحدث، وتقول: "شاهدت بعيني بيتي وهو يُهدم! لا أستطيع أن أتمالك نفسي. طلب مني رجال الأمن أن أخلي المنزل أنا وأولادي. وما أن خرجنا حتى بدأت عملية الهدم. إنها لحظة رهيبة! لقد وُلدت وعشت حياتي كلها هنا. لقد منحنا الدولة أرضنا، لكننا لم نحصل على حقنا ولا ندري إلى أين نذهب."

آثرت الأسر التي لم ترحل بعد عن ماسبيرو أن تعود إلى الحي بعد تطويره خلال ثلاث سنوات، مقابل الحصول على إعانة سكن. وعندما يعود أفراد تلك الأسر سيختارون ما بين التملك أو الاستئجار. لكن محمود، وهو رجل في الستين من عمره وأحد سكان الحي، لا يستطيع تحمل أسعار التمليك أو الإيجار، "كيف يمكنني أن أشتري منزلا بديلا عن منزلي في نفس المنطقة التي ولدت فيها، بأكثر من نصف مليون جنيه؟! هل يُعقل ذلك؟!"

أسأله عن أهمية الحي بالنسبة، فينهار باكيا: "إنه عمري وعمر أبي وعمر أولادي ومكان ميلاد أحفادي. كنت من أواخر من وافقوا على الخروج. لم أغادره إلا مضطرا. لقد أُصبت بجلطة في القلب من كثرة من تعرضنا له من ظلم خلال التسوية مع الدولة".

خطط الحكومة

لكن السلطات تؤكد أن التسوية التي تمت مع المواطنين جاءت بكامل رضاهم. ويقول إيهاب حنفي، المنسق العام لصندوق لتطوير العشوائيات التابع لوزارة الإسكان، إن"المبالغ المالية التي حصل عليها السكان كانت منصفة تماما."

ويضيف حنفي: "لقد أقمنا عدة حلقات للنقاش المجتمعي مع الأهالي، وطرحنا أمامهم جميع الخيارات. وكل منهم لجأ للخيار الذي يناسبه، واختار بكامل إرادته. لقد منحتهم الدولة مساكن جديدة بدلا من تلك المتداعية التي كانت ستودي بحياتهم في أي لحظة".

ويوضح حنفي أن الدولة لا تملك أي أراضي في مثلث ماسبيرو، بل إن الشركات الاستثمارية المالكة للأراضي استصدرت أحكاما قضائية بطرد السكان الشاغلين للحي، وأن الحكومة تدخلت وقدمت تلك التسوية لحماية الأهالي.

وتابع: "كان من الممكن أن يُطرد الأهالي على الفور بمقتضى تلك الأحكام، من دون أن يكون لديهم أي خطة بديلة. لكن الحكومة لم تسمح بحدوث ذلك، بل إننا استقطعنا جزءا من الأراضي المملوكة للمستثمرين كي نقيم عليها مساكن لأولئك الذين اختاروا العودة لماسبيرو خلال ثلاث سنوات".

العشوائيات مشكلة مزمنة

وتؤرق مشكلة العشوائيات الحكومات المتعاقبة في مصر، إذ يعيش بها ملايين المصريين. وتستحوذ العاصمة على العدد الأكبر من تلك الأحياء، التي أقيمت بعيدا عن التخطيط الحكومي وتنامت على مدار عقود.

وتضم العشوائيات الكثير من الأحياء التي تصنفها الحكومة غير آمنة على حياة الأهالي، وذلك إما لأن مساكنها آيلة للسقوط، أو لأنها معرضة للانهيارات الصخرية، أو مقامة في مجاري السيول، أو لقربها من أبراج الكهرباء أو المناطق الصناعية أو البرك والمستنقعات.

وبينما تؤكد السلطات أنه آن الأوان ليلحق مثلث ماسبيرو، وغيره من المناطق العشوائية في مصر، بقطار التطوير، يعتقد الأهالي الذين التقيناهم أن خطط التطوير لم تنظر لهم بعين الاعتبار، وأنها تهدف لتحويل حيهم لمنطقة تخدم المستثمرين بالأساس، وقد لا يكون لهم مكان فيها.