«إيلاف» من الرباط: قال الدكتور نسيم حداد، الباحث في التراث الشعبي، إن "العيطة" باعتبارها نمطا غنائيا شفاهيا، هي لسان حال المغاربة، يعبرون من خلالها عن مكنوناتهم الوجدانية، وتطلعاتهم المجتمعية.

وأضاف في محاضرة ألقاها اخيرا في "فيلا دار الفنون" بالرباط، تحت عنوان "العيطة .. من الهياكل التقليدية نحو موسيقى عالمية"، أن هذا النمط الغنائي الشعبي الذي يقوم أساسا على التنوع والاختلاف، والعفوية والتلقائية، جاء نتيجة ممارسة فنية جماعية مشتركة، منتشرة في جميع أنحاء المغرب، وسجلت تراكما عبر الحقب والأزمنة.

بين الملحون والعيطة

وأوضح أن مكونات العيطة ترتكز على التركيبة النصية، والنسق اللحني، والرقصات المتناغمة والإيحاءات الجسدية، ولا أحد يعرف كاتب نصوصها، بخلاف تراث الملحون الذي اشتهرت قصائده بأسماء مبدعيه من الناظمين والشعراء.

وفي مقارنة بين العيطة والملحون على مستوى الكتابة،لاحظ غياب وحدة النص وانعدام لغة عيطية معينة، بينما يكتب ناظمو الملحون بلهجة واحدة، مهما تباعدت المسافة الجغرافية بينهم في المغرب، سواء في فاس أو مراكش أو تافيلالت، أو غيرها من الجهات.

وكان المحاضر قد توقف في البداية عند مصطلح العيطة من الناحية اللغوية، مشيرا إلى أنه مستقى من فعل " عيط" ، أي "صاح"، وتعني الصرخة والصياح والنداء من أجل لفت الانتباه إلى مسألة ما.

قصة الشيخة "خربوشة"

ومن خلال خلفية تاريخية، تطرق الباحث في التراث إلى نشوء العيطة، في محاولة منه لاكتشاف المفاهيم المؤطرة لأدائها من الزاوية الفنية، ملمحا إلى إرهاصاتها الأولى في العصر المرابطي، قبل أن تعرف ازدهارها في العصر العلوي، حيث بدأت تغنى عند السلاطين، وضمنهم مولاي الحسن الأول.

إلا أن النظرة الدونية، حسب المتحدث ذاته، لاحقت فن العيطة من منظور النهج الديني في الثقافة المغربية، وتكرست تلك النظرة أيام المرحلة الاستعمارية للمغرب من خلال بعض السلوكات.

كما تطرق الباحث إلى علاقة "القياد" (المسؤولون المحليون) أو ممثلو السلطة "المخزنية" بفن العيطة، إذ اهتموا بها، وكان لهم ارتباط وثيق ببعض"الشيخات"، (المطربات الشعبيات).

وفي هذا الصدد، استحضر حداد قصة "القايد" عيسى بن عمر، الذي ارتبط بشخصية أسطورية هي "الشيخة" الملقبة ب"خربوشة"، وإسمها الأصلي هو حادة الغياثية، وأطلق عليها لقب "خربوشة" لإصابتها بمرض جلدي ترك بصماته على وجهها.

وعرفت هذه "الشيخة" بتحريضها للقبيلة من أجل النضال للعيش في ظل الحرية والكرامة، وقد انتهت حياتها بشكل محزن بعد أن تعرضت للقتل بطريقة بشعة اختلف الكثيرون حول ظروفها.

واستنادا على كلام نفس المحاضر، فإن هناك "شيخات" أخريات كان لهن دور التحريض على مواجهة الاستعمار أيام فترة الحماية بالمغرب، مثل الشيخة مباركة البهيشة، التي ذاع صيتها في منطقة بني ملال(وسط المغرب)، وحكم عليها بالنفي خارج بلدتها، لكنها أصرت على البقاء بالسكن في مقبرة إلى حين وفاتها، وفق ما ترويه الذاكرة الشعبية.

العيطة بين المحلية والعالمية

واستفاض حداد في استعراض خصائص ومقومات فن العيطة، التي تتوزع عبر جغرافية ثقافية وفنية مشتركة بين مجموع مناطق المملكة، وهي الأنماط العبدية والخريبكية والزعرية والشياظمية والملالية والسطاتية والبيضاوية والجبلية والغرباوية وغيرها.

ولم يفته أن يقدم بعض تجارب التجديد في التراث، مثل ما أقدمت عليه بعض المجموعات الغنائية، ك"ناس الغيوان" و"جيل جيلالة" و"بوشناق" و"أفلاك" و"مازاكان" التي قامت بثورة في الغناء المغربي، وكذلك فعلت أيقونة الطرب الشعبي الحاجة الحمداوية، التي خلقت نمطا جديدا اعتمادا على العيطة، وظهرت أخيرا أصوات شابة تنهل من هذا التراث مثل أسماء لمنور وسلمى رشيد وغيرهما.

وفي نهاية محاضرته المدعمة بمجموعة من التسجيلات الفنية التي تم عرضها بالمناسبة، لاحظ أن تراث العيطة، رغم أهميته، بقي محليا ولم ينطلق نحو العالمية، وأدلى بمجموعة من الأفكار والمقترحات التي يراها كفيلة بالخروج بهذا التراث نحو أفاق أرحب، لتجاوز هياكله التقليدية.

وقال إن التركيز على الخطاب النصي، وليس النسق الموسيقي واللحني، يحبس الغناء المغربي في الدائرة المحلية، ولا يرتقي به إلى تخطي الحدود، داعيا إلى تطوير البحث الأكاديمي في هذا المجال، والاستثمار في الصناعة الموسيقية، وترسيخ الإرادة السياسية للنهوض بهذا التراث، وتضافر جهود جميع العاملين في الحقل الفني.

العيطة بحر لا ساحل له

وبدوره، ألقى الفنان الشعبي حجيب فرحان، المشهور بأدائه لفن العيطة، لمحة عن "المشيخة"، كمرحلة فنية لايمكن الوصول إليها إلا بعد اكتساب مجموعة من المهارات في حفظ جميع أنماط "العيوط" وأدائها بكيفية فنية لها قواعدها وشروطها.
ونوه بدور "الشيخات" قديما، وخاصة أيام الاستعمار، فقد كن شاعرات وناظمات، وأغلبهن كن سجينات نتيجة رفضهن الانصياع لرغبات رموز الاحتلال.

وقال إن " المشيخة" ليست سهلة، وتتطلب الكثير من المواصفات، مرورا بالعديد من المراحل، للوصول إلى ما يسمى ب"التطبيع" وهو التثبيت، إضافة إلى الحضور الفني والأداء الصوتي.

وفي نظر حجيب، فلكي يكون الفنان متكاملا يجب أن يكون متمكنا من أدواته الفنية بإجادته للعزف والغناء، منوها بما قدمه المطرب المرحوم بوشعيب البيضاوي بمعية الفنان الماريشال قيبو من خدمات ارتقت بموسيقى العيطة.

وعزا "نجاح" المطربة الشعبية الحاجة الحمداوية إلى أنها لم "تصرخ" في غنائها، بل "غنت بصوت خفيض"، وهي "شيخة في ميدانها، واستطاعت أن تزواج بين مجموعة من العيوط".

واعتبر "العيطة" بمثابة "بحر لا ساحل له، كل شط يؤدي إلى بحر آخر"، ولا يمكن الحديث عنها في محاضرة أو غيرها في فترة وجيزة من الزمن، نظرا لتشعباتها.

وفي ختام تدخله، نوه بما توفره العيطة من متعة وجاذبية، وقال إن هناك مسؤولين وبرلمانيين تزوجوا ب"شيخات"، دون أن يستفيض في الموضوع.