خالد الدخيل

لنأخذ سؤالاً أو إشكالاً، ونرى ماذا يمكن أن تكون إجابته بالنسبة إلى الدين والفلسفة والعلم، كل على حدة. هذه المفاهيم الثلاثة طرق أو مناهج للتفكير والاعتقاد، وبالتالي لإنتاج المعرفة. يمثل كل واحد منها مرحلة فكرية معينة في تاريخ المجتمع الإنساني. ولأنها تختلف في طبيعة المنهج الذي تمثله وتتبناه، فستكون معالجتها لكل سؤال أو إشكال نابعة من المنطق الذي تنطلق منه.

لنأخذ مثلاً السؤال عن حقيقة الحياة بعد الموت. هذا سؤال منطقي، لكنه عن موضوع يقع خارج نطاق المنهج العلمي. حدود هذا المنهج محصورة في المواضيع القابلة للملاحظة المباشرة التي يمكن أن تتوافر عنها معطيات ومعلومات يمكن التثبت من صحتها وصدقيتها. ما بعد الحياة الدنيا يستعصي على العلم، وبالنسبة إلى المنهج العلمي فالحياة الدنيا قابلة للملاحظة والمعرفة، فنحن نعيشها ولدينا من المعلومات والمعطيات حولها وعن كل مجالاتها ما نعرفه، وما هو قابل للمعرفة في الحاضر والمستقبل، وبالتالي فهي واقع ندركه ونعيشه. أما laquo;الحياة الآخرةraquo; فهي شيء آخر. علمياً لا نعرف شيئاً عن هذه الحياة على الإطلاق. لن نعرف عن laquo;الحياة الآخرةraquo; إلا بعد الموت، ما يعني أننا في حياتنا الحاضرة لا نعرف عنها شيئاً يسمح لنا بالتفكير فيها وتقويمها علمياً. فهي واقعة في ظهر الغيب الذي يفترض أنه موجود في مكان ما وزمان ما.

ولأننا لا نعرف عن laquo;الحياة الآخرةraquo; إلا ما تقوله النصوص المقدسة إسلامية أو مسيحية أو غيرها، فلا يمكن التفكير في laquo;الحياة الآخرةraquo; إلا وفق المنطق الديني، وهذا المنطق يستند إلى منهج غير قابل للتأكد من صحته ودقته على أساس من المنهج العلمي. منطلق هذا المنهج هو الإيمان المسبق بصحة النص ودقته، وليس هناك مجال في المنهج الديني للسؤال أو الشك. المبدأ هو الإيمان، والمنتهى هو اليقين، أو كما يقول الأثر: laquo;الإيمان به واجب والسؤال عنه بدعةraquo;.

إذاً، بالنسبة إلى المنهج الديني الإجابة عن السؤال واضحة إلى درجة أنه لا حاجة للسؤال أصلاً. الموت مرحلة انتقالية أو برزخ بين الحياة الدنيا والآخرة. بعد الموت سيبعث الناس من جديد ليعيشوا laquo;الحياة الآخرةraquo; وفقاً لمعايير الحساب والجزاء. ووفقاً للمنهج نفسه فـ laquo;الحياة الآخرةraquo; تختلف عن حياتنا الدنيا من حيث إنها غير خاضعة لناموس النسبية. هي حياة مطلقة لا يعرف الناس فيها الكبر أو الهرم، ولا يعرفون الألم... إلخ.

في المقابل وعلى العكس من المنهج الديني، يرتكز المنهج العلمي على السؤال والشك ومبدأ البرهان. بطبيعته العلم يبدأ بسؤال وينتهي بسؤال أيضاً، وليس بيقين نهائي، ومن هنا تبرز أهمية تمييز المنهج العلمي وخطورته عن المناهج الأخرى، بخاصة المنهج الديني. نتيجة لهذا الاختلاف، من الطبيعي أن يكون لكل من العلم والدين موقف أو إجابة مختلفة تماماً عن إجابة الآخر عن السؤال نفسه. يقدم الدين إجابة نهائية لا لبس فيها، فليس هناك مجال ولا مبرر لمطالبة الدين بالبرهنة على صحة الإجابة. مثل هذه المطالبة تثلم تماسك منطق الإيمان والتصديق والتسليم، وتدخل عنصراً غريباً على ماهية المنطق الديني. مصدر الدين هو الله خالق هذا الكون وبارئ الحياة الدنيا والآخرة. وخالق الكون يعرف بالضرورة كل شيء عن هذا الكون ومبدأه ومآله. في مثل هذا الإطار يبدو السؤال عن الحياة بعد الموت غريباً وخارج السياق، لأنه يدخل عنصراً غريباً على ماهية الدين، بل إن الإجابة في هذه الماهية تسبق السؤال، ولا تترك مجالاً له أن يكون جزءاً من الخطاب الديني. السؤال يمثل نوعاً من التشكيك في النص وكماله ونزاهته، ونوعاً من الاعتداء على قدسية مصدره الإلهي. لا يمكن قبول الإجابة الدينية عن السؤال هنا إلا على أساس من الإيمان، وليس أي شيء آخر.

على الجانب الآخر، لا يملك العلم أن يقدم إجابة على السؤال نفسه. الإجابة الوحيدة أن السؤال يقع خارج السياق. هل السبب في ذلك أن هذا السؤال في الواقع ليس سؤالاً علمياً؟ لا، هو سؤال يتضمن إشكالاً منطقياً عقلياً شغل كثيرين منذ وقت بعيد، لكنه سؤال يقع خارج نطاق الحدود المنهجية للعلم، وهو كذلك لأنه سؤال عن واقع لا يستطيع المنطق العلمي أن يصل إليه ويخضعه للملاحظة المباشرة. يجب أن نتذكر مرة أخرى أن السؤال والإشكال هما المنطلق الأول للعلم، لكن، في الوقت نفسه ليس كل سؤال يمكن الحصول على إجابة علمية له. بالنسبة إلى المنطق الديني وبسبب نفوره من فكرة السؤال ابتداء وما يفرضه من إشكالات، لا ينتمي السؤال إلى حقل العلوم الدينية أيضاً، وذلك لأن السؤال بحد ذاته إشكالي، والفرق هنا واضح، فلا ينتمي السؤال إلى الحقل الديني لأنه يتناقض مع منطق الدين، ويضع سلطة الوحي موضع سؤال وتشكيك.

قد لا يملك العلم إجابة على السؤال، لكن هذا ليس لأن السؤال بطبيعته يتناقض مع منطق العلم، أو لأنه ليس سؤالاً علمياً. السبب يرتبط بحداثة العلم ودرجة تطوره المنهجي، وبالمدى المعرفي الذي وصل إليه الإنسان في معرفته لنفسه وللحياة وللكون ككل. موقف العلم هنا من هذا وغيره من الأسئلة التخمينية - وهي كثيرة - يعبّر عن عجز ناتج من محدودية معرفية ومنهجية، وليس عن رفض للسؤال وما يتضمنه من إشكال.

إذا كان السؤال عن حقيقة الحياة بعد الموت لا ينتمي إلى حقل العلوم الدينية، ويقع خارج حدود المنهج العلمي حالياً، فإنه سؤال فلسفي بامتياز. لماذا؟

يقدم برتراند راسل إجابة تستحق التأمل هنا. يعرف راسل الفلسفة هكذا: laquo;الفلسفة كما أفهمها هي شيء يقع في المنتصف بين اللاهوت والعلم. هي مثل اللاهوت من حيث إنها تتكون من أفكار وتحليلات تأملية أو تخمينات (speculations) لمواضيع لا تتوافر عنها معلومات دقيقة، أو يمكن التأكد من صحتها. لكن الفلسفة مثل العلم من حيث إنها تستند إلى العقل الإنساني وليس إلى السلطة، سواء في ذلك سلطة التقاليد أو سلطة الوحي. كل المعارف الدقيقة كما أرى تنتمي إلى العلم، وكل أشكال laquo;الدوغماraquo; (Dogma) أو المعتقدات التي تتجاوز حدود المعرفة الدقيقة تنتمي إلى اللاهوت. في ما بين اللاهوت والعلم هناك متاهة مفتوحة للتناول من الجانبين. هذه المتاهة هي الفلسفة. كل الأسئلة التي تستهوي أصحاب الذهنيات التي تميل إلى التحليل التأملي (speculative minds) هي تلك الأسئلة التي لا يستطيع العلم الإجابة عنها، وإجابة اللاهوت الوثوقية عليها لم تعد مقنعة كما كانت قبل قرون مضت. من هذه الأسئلة: هل العالم منقسم إلى عقل ومادة؟ وإذا كان كذلك، فما هو العقل؟ وما هي المادة؟ هل يخضع العقل للمادة؟ أم إنه يتوافر على قدرات مستقلة بذاته؟ هل للكون أي وحدة أو هدف؟ هل هو يتطور في اتجاه هدف ما؟ هل هناك فعلاً قوانين للطبيعة؟ أم إننا نعتقد ذلك بسبب من ميلنا الفطري نحو النظام؟...raquo; (Bertrand Russell, A History of Western Philosophy, Touchstone Books, p. xiii).

ما يؤكده راسل هنا هو ضرورة الفلسفة لسد الفجوة المعرفية التي نشأت من عدم قدرة العلم على التعاطي مع هذا النوع من الأسئلة، وعدم قدرة اللاهوت - وفقاً للمنطق العلمي - على تقديم إجابات مقنعة عنها. المنهج الوحيد المتوافر حالياً للتعاطي مع هذا النوع من الأسئلة التأملية والمهمة هو المنهج الفلسفي. لكن الفلسفة تشبع التطلع نحو التحليل والتأمل والوصول إلى فرضيات منطقية، لكن لا يمكن إخضاعها للاختبار العلمي أيضاً، وبالتالي لا يمكن الفلسفة أن تقدم إجابات علمية دقيقة. هل سيتغير الأمر في المستقبل؟ أم إن هذا النوع من الأسئلة سيبقى كما هو جزءاً ضرورياً من حياة الإنسان؟ هذا سؤال تأملي آخر. من ناحية أخرى، سياق التطور العلمي يرجّح أن شيئاً ما سيتغير في المستقبل. لا نستطيع أن نحكم ونحن لا نزال في بدايات التطور العلمي.