ابراهيم البيومى غانم

مع اقتراب نهاية هذا العامrlm;(2013rlm; مrlm;)rlm; تبدو أقدام السياسة التركية الشرق أوسطية غائصة بعمق في رمال متحركة ومصالح متشابكةrlm;;rlm; فلا هي تستطيع الخروج منهاrlm;,rlm; ولا هي تقبل الابتعاد عنهاrlm;.rlm; وهنا بالضبط تكمن معضلة تركيا في علاقاته الراهنة مع بلدان المنطقةrlm;,rlm; وبخاصة بلدان الربيع العربيrlm;.rlm;

كانت حكومة أردوغان منذ وصولها للسلطة في سنة2002 قد قررت كسر نظرية' الانسلاخ المتبادل' التي انتظمت مجمل العلاقات العربية التركية من لحظة تأسيس' الجمهورية' في سنة1924 م, إلي مطلع القرن الحالي. وبعد أكثر من عشر سنوات من الدبلوماسية التركية النشطة, والانفتاح الاقتصادي والتجاري, والانخراط في القضايا الشائكة للمنطقة وعلي رأسها قضية فلسطين, وقضايا الانتقال الديمقراطي و'الربيع العربي'; بعد هذا كله, وجدت حكومة أردوغان نفسها تواجه نقدا قاسيا من معارضيها الأتاتوركيين وغلاة القوميين واليساريين; الذين راحوا يذكرونها بفضائل' الانسلاخ' عن الشرق ومغارمه, والاقتراب من الغرب ومغانمه.
جوهر نظرية' الانسلاخ المتبادل' التي يتبناها أغلب معارضي الحكومة التركية هو: أنه لابد لتركيا من أن تبتعد عن الشرق العربي الإسلامي وتتوجه للغرب الأوربي العلماني; والسبب ـ بحسب هذه النظرية ـ هو أن كل المصائب التي حلت بتركيا نتيجة لارتباطها بالشرق; علاجها لا يكون إلا بالتوجهنحو الغرب الأوربي. والصورة عكسية تماما من جانب القوميين والعلمانيين العرب بحسب النظرية نفسها; ففي نظرهم أن كل ما حل بهم من مصائب سببه تركيا, وأن الانسلاخ منها والابتعاد عنها هو سبيل الخلاص واللحاق بركب الحضارة والتقدم.
ولكن بعد أكثر من ثلاثة أرباع القرن, ومع وصول حزب العدالة والتنمية للسلطة, قررت حكومة أردوغان التخلص من الإرث السلبي لتلك النظرية. وانتهت إلي أن عملية' الانسلاخ' قد حرمت تركيا من عمقها المشرقي العربي/ الإسلامي, وسلختها من هويتها الحضارية, وجعلتها مجرد' طرف' تابع بشكل مطلق للمركز الأطلسي, ولم تسمح لها إلا بأن تكون عصا أمنية في يد حلف الناتو. وعليه تبنت حكومة أردوغان النظريات الجديدة التي وضعها مفكرها الاستراتيجي الكبير أحمد داود أوغلو, وأهمها:' العمق الاستراتيجي', و'العثمانية الجديدة',' وصفر مشاكل' مع جميع دول الجوار. ولكن المعارضة التركية تري أن أردوغان قد أدخل تركيا في' التيه الكبير' الذي تتخبط فيه بلدان الشرق الأوسط, ومن ثم فهم إذ يدينون سياساته الشرق أوسطية, نجدهم في أغلبهم يعيدون إحياء نظرية' الانسلاخ المتبادل'.
وإذا دققنا النظر من جانبنا العربي في السياسة الشرق أوسطية التركية في هذا العام مقارنة بما كانت عليه في العامين الماضيين2011, و2012, سنجد بالفعل أن العام الحالي(2013) قد شهد تراجعا كبيرا تجاه منطقتنا وقضاياها المعقدة, وأنها ابتعدت عن' صفر مشاكل' مع كثير من جيرانها وخاصة سوريا. ونتيجة للتحولات الدرامية في مسار' الربيع العربي' وخاصة في مصر منذ30 يونيو, وسوريا منذ اتفاق التفتيش علي أسلحتها الكيماوية وتسليمها, تبدو العلاقات العربية التركية اليوم في خلفية المشهد السياسي العام للمنطقة لا في مقدمته. ولم يعد' النموذج التركي' في صدارة النقاشات العامة, والنقاشات الشبابية بصفة خاصة, كما كان خلال العامين الماضيين من عمر الربيع العربي. وكـأن الطرفين: العرب والأتراك قد تملكهم الحنين مرة أخري للعودة إلي نظرية' الانسلاخ المتبادل', بعد أن كانا قد اقتربا من التخلص منها خلال العقد المنصرم.
هناك أكثر من تفسير لتلك الحالة. أحدها سطحي يفسرها بسقوط حكم الرئيس محمد مرسي, وارتباك حكومة النهضة في تونس, باعتبارهما حلفاء' إسلاميين' أساسيين لحكومة أردوغان. بينما يذهب تفسير آخر إلي أن الولايات المتحدة هي الفاعل الرئيسي في تخريب السياسة التركية الشرق أوسطية; لأن هذه السياسة لم تعمل بجدية في خدمة مشروع الشرق الأوسط الموسع, أو الجديد, بل حاولت السياسة التركية تقوية نفوذها الخاص في المنطقة بغض النظر عن مخالفتها أو موافقتها للمشروع الأمريكي الخاص بالشرق الأوسط.
هذا التفسير الأخير له نصيب من الصحة في ضوء عديد من المؤشرات: منها أن تركيا اصطدمت أكثر من مرة بالسياسة الأمريكية في العراق, وفي الشأن الفلسطيني, وفي الملف النووي الإيراني أحيانا. إضافة إلي أن تركيا كانت قد شرعت في بناء علاقات قوية مع عديد من دول المنطقة قبل وصول الإسلاميين إلي السلطة في مصر وتونس, إضافة إلي ليبيا وسوريا; فكانت علاقتها حسنة مع مبارك, والقذافي, والأسد, ولكهم قادوا أنظمة غير ديمقراطية. وعليه فلا يمكن تفسير تراجع السياسة التركية الشرق أوسطية بسقوط النظام الإسلامي لمرسي في مصر, أو بارتباك حكومة النهضة في تونس.
ومن جانب آخر, يتسرع البعض فيذهب إلي أن ارتباك السياسة التركية ودخولها في' تيه الشرق الأوسط الموسع' جاء نتيجة تقدم السياسة الإيرانية في المنطقة. ويدللون علي ذلك بنجاحها علي الأقل حتي الآن في منع سقوط حليفها السوري الذي ناصبته تركيا العداء بعد وقت قصير من اندلاع الثورة السورية. ولكن إذا كان صحيحا أن إيران منعت سقوط نظام بشار حتي الآن, وأنها باتت أكثر مرونة في موقفها من أمريكا بشأن الملف النووي بعد وصول الإصلاحي حسن روحاني لسدة الحكم في طهران, فإن هذا لا يعني أبدا أن نفوذها يحل محل النفوذ التركي. ففيما عدا العراق وسوريا ولبنان, وهي نقاط الارتكاز التي تتمتع فيها إيران بنفوذ تقليدي, لا يمكن للسياسة الإيرانية أن تتوسع علي حساب التراجع أو الجمود التركي الشرق أوسطي الراهن. وذلك لسبب جوهري هو أن السياسة الإيرانية تجاه العالم العربي' كسيحة', ومعوقة ذاتيا, نظرا لطابعها المذهبي الذي لا تستسيغه أغلب الشعوب العربية, بالإضافة إلي أن هذه الشعوب ليست علي صلة تاريخية وثيقة بالثقافة' الفارسية'; بينما صلتها قوية تاريخيا بالثقافة والمصالح الاقتصادية التركية.
وفي جميع الأحوال فإن التطورات الدرامية التي تشهدها بلدان الربيع العربي, وتحولات الموقف التركي منها, قد وضعت أكثر من علامة تساؤل حول' حالة الإعجاب' التي سادت في الفترة السابقة بالنموذج التركي. وكلما اقتربنا من النخب الفكرية والثقافية التركية, أو اقتربت هذه النخب منا, اكتشفنا نحن وهم أن كلا منا لا يزال غير قادر علي فهم الآخر فهما صحيحا. والمحصلة حتي الآن تتلخص في أنه لا العرب يفهمون الأتراك كما ينبغي, ولا الأتراك يفهمون العرب كما ينبغي. والجميع لا يزالون يسبحون في' تيه الشرق الأوسط الموسع'. ولكن دون أن يفقدوا الأمل في قرب الخروج منه, والوصول إلي بر المصلحة المشتركة بعيدا عن أشباح العودة لحالة' الانسلاخ المتبادل'.