محمد الصياد

نعتذر أولاً للكاتب الكبير محمد حسنين هيكل على استعارة quot;ترويسةquot; مقالاته التي كان ينشرها في quot;الأهرامquot; بعنوان quot;بصراحةquot; والتي كان ينتظرها القراء العرب بشغف بالغ .
وبصراحة، بدايةً، بأنه ما من تفسير متيسر حتى الآن لما يبدو أنه لا مبالاة للحروب الخطرة والمكشوفة التي يشنها تنظيم quot;القاعدةquot; ضد الدولة ومؤسساتها ومرافقها ورموزها السيادية في غير بلد عربي، اللهم ربما، وهذا مرجح، أن تكون مستويات صناعة القرار في النظام السياسي الرسمي العربي، مازالت مأخوذة ومصدومة بquot;تقلبات الدهرquot;، خاصة منها تلك التي أفرزتها quot;


هبّات الربيع العربيquot;، ومشغولة ومنشغلة باهتزازاتها الارتدادية وتداعياتها المحتملة . السيناريو واحد، في اليمن كما في العراق كما في ليبيا ومصر وسوريا وتونس والجزائر والصومال ومالي . تعددت الأقنعة والوجه واحد . نعم الأصل واحد، إنه quot;القاعدةquot; حتى ولو اتخذت فروعها مسميات تضليلية مثل quot;أنصار الشريعةquot; quot;جبهة النصرةquot; أو غيرها . فمن الواضح أن قيادات هذا التنظيم الذي سوف يضطر العالم قريبا للتعامل معه باعتباره الخطر الأكبر والأكثر تهديداً للأمن والسلم الدوليين، وبعد أن كانت تحلم بتسلم السلطة في غير بلد عربي بمساعدة الولايات المتحدة مكافأةً لها على مساعدة التنظيم لواشنطن في إخراج القوات السوفييتية من أفغانستان قبل أن تدير له ولقياداته ظهرها بعد أن تحصلت على مبتغاها، وتتحول تلك القيادات بزعامة أسامة بن لادن (قبل تصفيته على أيدي الأمريكان حلفاء الأمس) للانتقام منها- نقول بعد أن كانت قيادات القاعدة تحلم بذلك، فقد أصبحت اليوم مقتنعة أشد الاقتناع بأن الظروف قد أصبحت مواتية ومهيأة لها للانقضاض عسكرياً على النظم القائمة في البلدان المشار إليها عاليه .


ولن يحتاج المعنيّون بمتابعة الأخطار الأمنية المحدقة، سواءً من المشتغلين الوظيفيين أو السياسيين، أو المتابعين، بحكم الوظيفة أو الاهتمام، بقضايا الرأي العام، خصوصاً منها ذات الأثر الحالّ والسلبي-لن يحتاجوا الى بذل جهد في التمحيص والتفتيش عن حقائق ما بين السطور، ولا تخصيص حيِّز، مهما كان ضيقه من وقتهم الثمين، لهذه المتابعة .


فأخبار الهجمات المميتة والتصفيات الجسدية والاغتيالات المنظمة وأعمال التخريب والتدمير المستهدِفة رجال الأمن وقوات الجيش وقياداتهما المنتقاة بعناية، وكذلك مؤسسات ومرافق الدولة الحيوية في تلك البلدان، تملأ الرحب ويكاد سيلها المتدفق غير المنقطع، يغرق حتى أولئك الواقعين على هامش متابعي الأحداث المحلية والإقليمية والعالمية .
واللافت والمثير للتساؤل هو أن الأعمال الإرهابية المشينة التي يشنها تنظيم القاعدة تحت عناوين طائفية ومذهبية تُذَكِّر بالحروب الدينية في أوروبا في عصور ظلماتها في غير بلد عربي، لا تلقى أي نوع من رد الفعل المستحق لا من الجوار الإقليمي ولا من سدنة قيادات عواصم القرار الدولي، ولكأن الأرواح التي تُزهق والدمار الرهيب الذي يصيب رأس المال المادي والرأسمال الاجتماعي، لا يستحقان أدنى التفاتة ماداما يحدثان في quot;ملعب الآخرquot; ولا يطاولان المصالح إلا من زاوية تحقيق غاياتها وفقاً لمنظور تلك الأوساط التي ترى في مقاربة الصمت على تلك الجرائم الفظيعة، راهناً على الأقل، quot;فضيلة دبلوماسيةquot; بديعة، متواسقة مع موجة التوحش الجامحة التي تجتاح منظومة العلاقات الدولية، بمشاركات ومساهمات تفاضلية متغايرة، والتي أضحت فيها القاعدة وعملياتها الإرهابية إحدى الأدوات المجندة في هذا الصراع الإقليمي والدولي لاقتصاص المصالح ومواقع النفوذ .
السؤال الآن، هل بمقدور القيادة المركزية لتنظيم القاعدة وتفريخاته الضاربة (بمعزل عن مسمياتها التدليسية)، تحقيق أحلامها في انتزاع السلطة، ولو في دولة عربية واحدة، من خلال تصعيدها السافر لوتيرة وحجم ونوعية هجماتها وتزامناتها استعجالاً للقبض على الحلم؟
مما لا شك فيه أن لديها الخزين البشري الموهوم، ولديها التمويل السخي المزدهرة إمداداته من جديد بعد quot;تواريه عن الأنظارquot; إثر الحملة الأمريكية quot;الزاجرةquot; ضد مصادر وخطوط هذا التمويل أملتها آنئذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر الإرهابية .
بيد أن هذه الظروف الذاتية المواتية وحدها لا تكفي لتحقيق quot;الاختراقquot; القاعدي المنشود . ففي ظل عالم أقل سيادةً مما كان عليه الى ما قبل الطور الجديد والمتجدد من عمق العالمية، بنسختها المسماة العولمة، وما كان رسم له وصاغه زعماء النظام الدولي لما بعد الحرب العالمية الثانية، يكاد يكون في حكم المستحيل الفوز بشرعية اقتناص السلطة من دون توفر غطاء دولي مستعد للتعاطي مع الحالة التي ينشئُها القبض على السلطة في بلد ما من قبل جهة أو جماعة ما ؛ فما بالك في حال تعلق الأمر بتنظيم القاعدة أو أحد تفريخاته الذي سيحتاج الى أكثر من غطاء، بما في ذلك توفر الحاضنة الشعبية القابلة للتعايش معه ليس اضطراراً أو مزاجاً انفعالياً مؤقتاً وإنما على مدار فترة حكمه التي قد تمتد أو تقصر!


فتنظيم القاعدة هو في التحليل الأخير عبارة عن quot;أداة فعَّالةquot; - بحسبان أساليبها المعتمَدة التي تقارب بعض أنواع أسلحة الدمار الشامل - يستخدمها أفرقاء الصراع لتغيير أو تعديل موازين القوى على الأرض توطئةً لإنشاء وعقد التسويات الكلية في أعقابها . وعلى ذلك، ما إن تتبلور القناعة لدى جميع الأفرقاء الذين يمثلون الثقل الأعظم والأساسي في النظام الدولي، ويدركون هول الخطر والتهديد المتزايد الذي صار يشكّله تنظيم القاعدة وتفريخاته لمصالحهم عبر العالم، فسيدفعهم ذلك دفعاً نحو اعتبار هذا التهديد معادلاً للتهديد الذي كانت شكلته النازية والفاشية على البشرية، وحينئذ سيشهد العالم طي صفحة أخرى سوداء من تاريخة الحافل بالنكبات والمحارق .