رغيد الصلح


على الرغم من كل ما يمكن اعتباره اختلاطاً شديداً في أوراق الأزمة العراقية المحتدمة الآن والدامية في محافظة الأنبار، خاصة في مدينتي الرمادي والفلوجة فإن هذا الاختلاط لا يستطيع أن يطمس ثلاث حقائق أساسية هي أركان هذه الأزمة، ومن دون التعامل المباشر معها بعقلية قادرة على إدارة الأزمات وبمشروع وطني خالص ونزيه مبرأ من كل تدخل خارجي أياً كان مصدره، عربياً أو إقليمياً أو دولياً، سيبقى العراق مرهوناً لأزماته، مستثنى، إلى أجل غير مسمى، من حسابات القوة العربية، بل ربما يكون محسوباً عليها وخصماً من رصيدها رغم كل مركزتيه في مكونات هذه القوة .
الحقيقة الأولى أن الإرهاب بات يضرب بقوة في العراق ويسعى لتحويلها إلى quot;ولاية إسلاميةquot;، وما يحدث في سوريا هذه الأيام من معارك دامية بين تنظيم quot;الدولة الإسلامية في العراق والشامquot; (داعش) وفصائل أخرى مثل quot;جبهة النصرةquot; وquot;الجبهة الإسلاميةquot;، والفصائل المكونة لquot;جيش المجاهدينquot; .
فما يحدث في سوريا من صراع دام بين هذه الفصائل quot;الإرهابيةquot; بقيادة تنظيم quot;القاعدةquot; وحلفائه، والدور المهم لتنظيم quot;الدولة الإسلامية في العراق والشامquot; (داعش) في هذه المعارك أدوار مكملة لأصل تمركز منظمات الإرهاب في العراق بعد أفغانستان، حيث إن العراق أضحى حلقة الوصل بين أفغانستان وسوريا . فمسعى حركة طالبان ونشاط quot;القاعدةquot; في أفغانستان يتمحور حول هدف إقامة quot;الدولة الإسلاميةquot;، فتأسيس الولايات الإسلامية كان البداية في أفغانستان وبعدها العراق والآن سوريا، وإذا فشل مشروع إقامة الولاية الإسلامية في سوريا، فالعودة مؤكدة إلى العراق، وإذا نجح المشروع في سوريا فالعودة أيضاً مؤكدة إلى العراق لاستكمال المهمة . ومن ثم فإن أي محاولة لإيجاد حل للأزمة العراقية من دون وضع استراتيجية وطنية لاستئصال الإرهاب في العراق لن يكتب لها أي نجاح .
الحقيقة الثانية هي تغول quot;الطائفة السياسيةquot; ومسؤوليتها مؤكدة في أزمات العراق أمنية كانت أو سياسية أو اجتماعية واقتصادية .
ولا نبالغ إذا قلنا، أيضاً، إن مايحدث في سوريا من مواجهات دموية يلبس بعضها ثوباً طائفياً هو نتاج للحكم الطائفي في العراق وليس العكس . فقد جاء الاحتلال الأمريكي للعراق بمشروع طائفي للحكم هدفه فرض مخطط إعادة ترسيم الخرائط السياسية للدول العربية وبعض دول الجوار الإقليمي لتمزيق وحدة quot;الكيان العربيquot; وتهميش الهوية القومية العربية للأمة لمصلحة هويات أخرى فرعية بديلة دينية وطائفية وعرقية، وتأسيس نظام إقليمي بديل يرتكز على تلك الدويلات الدينية والطائفية بما فيها quot;الدولة اليهوديةquot; وفرض هذه الدولة قوة مهيمنة على هذا النظام الإقليمي الطائفي العرقي البديل للنظام العربي . والدستور الذي فرصه بول بريمر الحاكم العسكري للعراق بدعم من أطياف عراقية رأت في الاحتلال الأمريكي للعراق فرصتها التاريخية للسيطرة والهيمنة الطائفية لما سمي وقتها بquot;العراق الجديدquot; .


مخرجات الطائفية السياسية في العراق لم تعد الوصول بquot;العملية السياسيةquot; إلى الطريق المسدود فقط، بل إلى العنف وربما الارهاب الطائفي الدامي . فالقاعدة وتنظيم quot;داعشquot; يخوضان مع غيرهما الصراع في العراق على أسس طائفية غير وطنية، وهناك أيضاً ميليشيات شيعية تخوض الصراع هي الأخرى على أسس طائفية، على نحو ممارسات مايسمى بquot;جيش المختارquot; بزعامة واثق البطاط الذي صدرت بحقه أوامر اعتقال عدة، وأعلن أنه اعتقل قبل أيام .
الخطورة تتأتى من أن العنف الطائفي يولد عنفاً طائفياً مقابلاً، فطوال الأشهر الماضية التي شهدت اعتصامات وانتفاضات محافظة الأنبار، خاصة مدينة الرمادي كانت ساحات الاعتصام في هذه المناطق مفعمة بالصوت الطائفي والعشائري . كان هذا الصوت هو الأعلى على حساب الصوت الوطني، والآن وبعد المعارك الدامية للجيش والشرطة العراقية والصحوات الموالية للحكومة في الرمادي والفلوجة استطاع تنظيم quot;داعشquot; أن يفرض سيطرته كاملة على الفلوجة كرد فعل لنجاح الجيش في فرض سيطرته على الرمادي . تنظيم quot;داعشquot; أعلن فور إحكام سيطرته على الفلوجة تحويلها إلى quot;إمارة إسلاميةquot; .
الطائفية السياسية في العراق لم تعد مجرد عملية سياسية تهدد وحدة الوطن والشعب، ولكنها أداة تدمير وقتل وتمزيق للنسيج الوطني العراقي، واستمرارها ليس له من معنى سوى استكمال مسلسل تدمير العراق .
إن بقاء المالكي رئيساً لحكومة تسيير أعمال طوال هذه الفترة يعطيه فرصاً أقوى لتأسيس التحالف المرجح بالحكم، ومن ثم استمراره رئيساً للحكومة لدورة ثالثة على التوالي بدافع من سطوة السلطة ورهن العراق كله لمشكلاته وأزماته من دون حل حقيقي يؤسس لمشروع وطني ينهي الطائفية السياسية، ويقضي على الإرهاب ويقيم الدولة الديمقراطية، دولة القانون القادرة على محاربة الفساد، التي بدونها سيبقى العراق رهناً لأزماته .