رشيد الخيّون

في البداية، أروي ما سمعته من الباحث العراقي الراحل محمد حسين الأعرجي2010 وقرأته له، ناقلاً عن أستاذيه وزميليه، في ما بعد، في الجامعة، بما يفيد على ولاءات الأحزاب للعواصم، بما يسميه البعض بالعمالة وما يسمونه هم بالمصلحة. ملخصها: أن الأكاديميين اليساريين صلاح خالص (ت 1986)، وفيصل السَّامر (ت 1982) اعتقلا بسبب انتمائهما الحزبي، وأُطلق سراحهما بعد فصلهما من عملهما الأكاديمي، ففتحا مطعماً، عنوانه: «كباب الجامعة لصاحبيه الدُّكتور صلاح خالص والدُّكتور فيصل السَّامر»، في وقت كان يُعز به اللَّقب الأكاديمي، وهو ما يُعاب على الحكومة. فاستُدعى خالص مِن قِبل نوري باشا (قُتل 1958)، نهض الباشا ورحب به وسأله: «شنو معنى هذا المطعم»؟ فأجابه: «باشا نريد نعيش»!

قال الباشا لخالص: «ليش ما تترك الشيوعية وتخلصنا»؟ أجابه: «وأنت ليش ما تترك بريطانيا»؟ فأجابه: «أشوف مصلحة العراق ويَّه بريطانيا»! فقال خالص: «وأنا أشوف مصلحة العِراق ويَّه الاتحاد السوفييتي»! لحظتها اتصل نوري السَّعيد بوزير المعارف يأمره بعودة خالص والسَّامر إلى عمليهما، مع وصيَّة وديَّة: «ما تسوي أنت وصاحبك الطُّلاب شيوعيين»! فأجابه خالص: «باشا أحنة بالكلية أساتذة مو غير شيء» (صحيفة المؤتمر 11-17 أغسطس 2001). بطبيعة الحال، مثلما كان يرى الشيوعيون، وهذا غير مخفي، مصلحة العراق مع موسكو، كان القوميون يرون أن مصلحة العراق مع القاهرة بالوحدة العربية؛ وأن القائد لهم والعرب عبد النَّاصر (ت 1970)، البعض حكموا على الشيوعيين والقوميين بالعملاء إلى موسكو والقاهرة، بينما هم يفسرونها بالمصلحة. بعد الثَّورة الإيرانية (فبراير 1979) أضيفت عاصمة ثالثة للولاءات العراقية، ولم تكن مِن قبل موجودة في عهد ملوك إيران. يرى الإسلام السِّياسي الشِّيعي تلك المصلحة، ما قبل أبريل 2003، ومَن قَدِم مِن طهران وبقية العواصم، على أنه في زمن المعارضة كان مدعوماً دعماً كاملاً، ومنه مَن تأسس برعاية إيرانية، واستفاد مِن الأسرى العراقيين، خلال الحرب العراقية الإيرانية (1980 - 1988)، لتشكيل ألوية ضد الجيش العراقي، بولاء لا حدود له، مِن تنفيذ علميات تفجير واغتيال لمصلحة إيران في الحرب. نعود للحوار الذي استهل به المقال. لو كان الاتحاد السوفييتي يحد العراق وحدثت حرب معه، أو كانت مصر تحده وحدثت حرب معها؟ فماذا كان موقف الشّيوعيين والقوميين منها، وهما ليسا على انسجام مع نظام العراق؟ بالتأكيد سيفسرها النِّظام بالعمالة وتفسرها معارضته بالحق والمصلحة.

&


لا يهم أن يكون التوصيف بالعمالة أو المصلحة، فالعلاقة غير مخفية، وفيها تجاوز على الوطنية بشكل مِن الأشكال، وانتهى عصر الأممية وعصر القوميَّة أيضاً، وها نحن في عصر الإسلاميَّة، وهو سينتهي حتماً، فولاية الفقيه آيديولوجية لا تقوى على تبادل السُّلطة، وهي وإن قدمت نفسها ممهدة للمهدي المنتظر، لكنها لم تحصل على تأييد الجميع ومنهم كبار علماء الدِّين، الذين يقرون بوجود المنتظر، وبيوم خروجه بأمر إلهي، لا بتمهيد إنساني. لم يحصل أن تسلم الشيوعيون السُّلطة (ماعدا التسعة شهور التي أعقبت تموز 1958 وكان هيمنة جمهور لا سلطة)، كي نُقدر مدى فتح الأبواب لموسكو على مصراعيها بلياقة أو دون اللياقة، أما القوميون والبعثيون فتسلموا السُّلطة لكنهم لم يقيموا الوحدة التي قتلوا عليها عبد الكريم قاسم (1963)، انتبهوا أن الوحدة ليست بمصلحة العراق، فظلوا يعلنونها على ورق وراية فقط.

بعدها تسلم الإسلام السِّياسي الشيعي السُّلطة، وها هو يدخل عامه الثاني عشر، والأبواب مشرعة لإيران ولاية الفقيه، حتى صارت الحكومة لا يُصادق عليها إلا بموافقة ولائية، ووجود قاسم سليماني وضباطه لم يعد سُراً بل يجولون ويصولون ببغداد، وقد سميته في مقالة سابقة «والي العراق»، والاقتصاد مرتهن بالصناعة والزراعة الإيرانيتين- والتركيتين- بل إن الحصار الدولي على إيران تخلخل من نافذة العراق وأمواله، ويظهر أحد الوزراء مِن المعتبرين مصلحة العراق مع طهران، وهو في الخدمة، مقبلاً يد ولي الفقيه علانيةً، حتى أشعرنا أن الأمر قد تعدى المصلحة إلى الانبطاح.

إذا اعتبرتم مصلحة العراق مع طهران فحققوها، لأن العراقي لا يرى هذه المصلحة، بقدر ما تحققت مصلحة طهران. متى تشعرون أنتم سلطة مسؤولة لا معارضة يبرر لها الانتماء والولاء؟ كي لا تتحول بغداد إلى مطعم لصاحبه «الولي الفقيه»، مع أنني أعذركم بحدود عذر الباشا لخالص وزميله، واعترض على تسميتكم بالعملاء إذا ما بقي الأمر بحدود المصلحة! العراق أولاً وإيران ثانياً.
&