عبدالله بن بجاد العتيبي

لم تضع السعودية إيران في مأزقٍ، بل إيران هي من صنعت ذلك لنفسها، والسعودية استفادت منه ليعلم العالم بأسره جناية ومروق الجمهورية الإسلامية في إيران عن كل القوانين الدولية والأعراف الدبلوماسية.
يبدو أن شيخوخة الملالي في إيران تمنعهم من رؤية التغيير الكبير في التوجهات السياسية السعودية وطرق إدارة الأزمات، ولم ينتبهوا لدرس اليمن وضرب ميليشيا الحوثي بالقوة السياسية والقوة العسكرية، وإجبارهم على أن يتخلوا عن نمر الورق الحوثي الذي صنعوه ويقفوا مكتوفي الأيدي وعاجزين عن أي رد فعل إلا بعض المناوشات.


اعتداء إيران السافر على السفارة السعودية في طهران وقنصليتها في مشهد كان هو القشة التي قصمت ظهر البعير، فكان قرار السعودية التاريخي بقطع العلاقات مع طهران، وتبعه بناء قضيةٍ متماسكةٍ ضد إيران، بدءًا بالجامعة العربية التي دعمت الموقف السعودي، وصولا لمنظمة المؤتمر الإسلامي التي أدانت الخميس الماضي بالإجماع اعتداءات إيران، وهي خطواتٌ ناجحةٌ للدبلوماسية السعودية يبنى عليها غيرها، فهي كما يبدو لن تكون الأخيرة.
بعد قطع العلاقات نشرت الخارجية السعودية بيانًا موثقًا يوضح بالأرقام والإحصائيات والمعلومات جرائم الجمهورية الإسلامية في إيران على مدى خمسة وثلاثين عامًا. وهذا البيان يمثل جردة حساب الإرهاب الإيراني الثوروي الإسلاموي، وهو بيان خاص بموضوع الإرهاب ورعاية إيران له ودعم حركاته وتنظيماته وخلق ميليشياته، دون التطرق لبقية البشاعات التي ارتكبتها إيران.


فمن المسكوت عنه في البيان قرار الخميني بتصفية كل رفقاء السلاح في بناء ما عرف لاحقًا بالثورة الإسلامية، فهو لم يدع منهم أحدًا، فهم اليوم بين قتيلٍ وسجينٍ ومنفي أو مفروضٍ عليه الإقامة الجبرية، كما أنه لم يتطرق لحرب الخميني ضد العراق والتي استمرت لثماني سنوات حسومًا، استنزفت موارد إيران والعراق دون طائلٍ، ولم يتخل عنها الخميني إلا بعدما تجرع السم، كما هي عبارته الشهيرة.


كما لم يتطرق البيان لمواصلة الثورة الإسلامية لاحتلال الجزر الإماراتية الثلاث، طنب الصغرى وطنب الكبرى وأبو موسى، وصولاً إلى ما يشبه احتلال العراق بعد انسحاب القوات الأميركية دون أي شعور بالمسؤولية التاريخية، وهو ما سماه الراحل الأمير سعود الفيصل بتسليم العراق على طبقٍ من ذهبٍ لإيران.


في البيان رسائل متعددةٌ للعالم أجمع وللدول الأوروبية والولايات المتحدة الأميركية، تذكرهم بجرائم إيران وإرهابها الذي طال مواطني هذه الدول، الذين ذهب العشرات منهم ضحايا لذلك الإرهاب ولم تزل عوائلهم تئن من فجيعة الجرائم وتئن ثانيةً بتخلي دولهم عن حقوقهم دون جدوى.


وفي البيان سردٌ لاستخفاف إيران بالقوانين والأعراف الدولية والدبلوماسية، فهي لم تحترم يومًا تلك القوانين، وقد هاجمت بشكلٍ منظمٍ وعلى مدى سنواتٍ السفارات الأميركية والبريطانية والكويتية والسعودية أكثر من مرةٍ، وهي لم تلتزم أبدًا بمبدأ احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، وهذا تاريخها ماثل للعيان في العراق وسوريا ولبنان واليمن.


لقد كانت إيران وليس السعودية من بدأ بالحرب الإقليمية الباردة، فتحت «أوهام الإمبراطورية» و«تسنين التشيّع» ومبدأ «تصدير الثورة» ومبدأ «الاستغلال»، أرادت إيران بسط نفوذها على الدول العربية وشعوبها، وقد أخطأت حين ظنت أن الدول العربية وشعوبها ستصمت عن هذه الاعتداءات.


لم تزل إيران تستحضر التاريخ القديم وأمجاد الإمبراطورية الفارسية، وتوضح تصريحات بعض مسؤوليها وسياساتهم الداخلية والخارجية هذه الشوفينية العنصرية البغيضة، وهي بتضخيم نظرية الخميني لـ«ولاية الفقيه» إنما قامت فعليًا بـ«تسنين التشيع» كما شرح بإسهاب المفكر المغربي عبد الله العروي، أي تحويل المذهب الشيعي من مذهب معارضةٍ وانتظارٍ إلى مذهب حكمٍ وتنفيذ، كما أن مبدأ «تصدير الثورة» بزعم نصرة المستضعفين إنما أسفر عن تصدير القتل الجماعي والمذابح والإرهاب لدعم الاستكبار والديكتاتورية الإيرانية.


لقد كان الهدف من «تصدير الثورة» هو الدول العربية وليس باتجاه آسيا الوسطى أو الهند أو غيرهما، وقد كان من طرق سعيها لبسط الهيمنة مبدأ «الاستغلال»، وهو ذو أبعادٍ ثلاثةٍ: أولاً، استغلال المذهب الشيعي وتطويعه فقهيًا وطائفيًا لخدمة الأهداف التوسعية السياسية، أو استخدام الطائفية كسلاح سياسي وإرهابي. ثانيًا، استغلال قضية فلسطين، في البداية كغطاء لمعارضة الشاه، ومن بعد في محاولات التدخل في شؤون الدول العربية، وفي هذا يقول رفسنجاني: «لقد استفدنا من هذه الوسيلة في طرح القضية الفلسطينية، التي كانت منسيةً، وضمنًا، لنتمكن عبر هذا الطريق من إيجاد علاقات مع الخارج وتقويتها». ويفسر في موضعٍ آخر إصرار الخميني على تبني القضية الفلسطينية فيقول: «هذا الإصرار يبين بوضوح بعد نظر الإمام.. ورغبته في أن تمتد المعركة (مع الشاه) إلى المنطقة، ومن ثم إلى العالم». وهو ما استمرت فيه إيران بعد إطاحة الشاه عبر فيلق القدس ويوم القدس ونحوهما من الشعارات.


والاستغلال الثالث هو استغلال شعارٍ برّاقٍ مثل «المقاومة والممانعة» لخديعة بعض النخب والشعوب العربية، وهو شعارٌ سيطرت به على لبنان وسوريا، وشقت الصفّ الفلسطيني عبر حماس وانقلابها في غزة.


قدّم بيان الخارجية السعودية ومقال وزيرها عادل الجبير في «نيويورك تايمز» حقيقة إيران للعالم، بالأحداث والأرقام والتواريخ والمعلومات، وهي بذلك تكون قد ردّت بشكلٍ قوي على محاولات إيران البائسة لربط السعودية بالإرهاب، وردّت كذلك على وسائل الإعلام الغربية التي تستهدف السعودية بشكلٍ ممنهجٍ ينمّ عن جهلٍ ذريع تتخبط فيه تلك الوسائل بطبيعة المنطقة وصراعاتها وتاريخها وأزماتها.


تخلّت إيران بعد الحرب مع العراق عن رؤية الخميني لاستخدام الحرب المباشرة لتصدير ثورتها وبسط نفوذها، وتبنّى خامنئي طريقة بناء الميليشيات ودعم الجماعات الأصولية والتنظيمات الإرهابية، التي يتم تدريبها وتسليحها عبر الحرس الثوري الإيراني، من حزب الله اللبناني إلى حزب الله الحجاز، ومن حركة الحوثي إلى حركة حماس، ومن الحشد الشعبي إلى تنظيم القاعدة، وهي حركاتٌ وتنظيماتٌ إرهابية تتفق مع إيران في عدائها للسعودية والدول العربية.


وضمن هذه الرؤية تأتي زراعة خلايا التجسس في الكويت والبحرين والسعودية، وتأتي مهاجمة الحج والحجاج وقتلهم وترويعهم في البلد الحرام وفي الشهر الحرام، والأمثلة كثيرةٌ ومتعددةٌ.


أخيرًا، كم هي ضخمةٌ جناية إيران على أتباع المذهب الشيعي، ومحاولتها الدائمة لاختطافه واختطاف تمثيل أتباعه، مع رفض كثيرٍ من الشيعة لذلك وانتمائهم غير المشروط لأوطانهم ودولهم وانحيازهم لشعوبهم، لكنها تؤجج طائفيةً مقيتةً ستدخل أتباعها في محرقةٍ كبرى حين يتأجج الغضب السني ضدها.
&