عادل درويش


خمس سنوات مضت على الانتفاضات التي بدأت في تونس، وبلغت أوجها الاستعراضي في مصر، فليبيا، فاليمن، فسوريا. حالة الثلاث الأخيرة تتراوح بين المأساة والكارثة في صيحة يوسف بك وهبي «يا لللهوووول».
«نهاية سعيدة» في تونس، بتعريف هوليوود وشارع الصحافة، نبهت مسؤولي الديسك الخارجي في الصحافة وشبكات البث العالمية إلى ضرورة متابعة وسائل التواصل الاجتماعي كـ«ترمومتر» قياس حالة غليان التيارات التحتية في المجتمعات الممتدة من شمال أفريقيا واللافنت (المشرق أو «بر الشام في اللغة المصرية»، الواقعة بين وادي الأردن ونهر الفرات) إلى مضيق باب المندب. تيارات غابت عن الصحافة الرسمية أو الخاصة التابعة لاستثمارات تفضل التوازن الراهن status quo فوجدت في ديمقراطية ثورة المعلومات بديلاً وبدأت ملامح التمرد تتشكل.


برصدها لوسائل التواصل الاجتماعي بعثت الديسكات الخارجية في الصحافة العالمية المراسلين وأطقم الكاميرات وديشات الإرسال، عشرة أيام من سقوط نظام زين العابدين بن علي في تونس، إلى المحطة التالية مصر.
يلاحظ القارئ إسقاطي لتعبيري «الثورات» و«الربيع العربي».


منذ أحداث تونس في مطلع 2011 أصدرت فرمانا صارما للصحافيين الشباب الذين أشرف عليهم بتجنب «الربيع العربي» كتعبير ابتدعه صحافيون سائحون قليلو الخبرة سواء ببلدان 2011 أو بلدان شرق أوروبا قبل سقوط حائط برلين.


سطحية قراءتهم للتاريخ (أي صحافي عاصر «ربيع براغ» لا بد أن يتجاوز عمره 65 عاما في 2011) أعمتهم عن التعمق في الحالة الاجتماعية والسيكولوجية الجماعية لشعوب ما وراء الستار الحديدي. شعوب لم تنس أبدا حلم العودة - أكرر «العودة» - لديمقراطية التعددية البرلمانية وثقافة ليبرالية اجتماعية عاشوها لقرنين ونصف القرن منذ تغلب عصر العقل على سيادة تحالف الأوتوقراطيات الثيولوجية والإقطاعية. لم تنطفئ ثقافة التنوير بل دخلت ما يشبه البيات الشتوي للأحياء لـ45 عاما فقط أثناء سيطرة الشيوعية الستالينية الشمولية، ثمن التحالف مع السوفيات في الحرب العالمية الثانية (أقل ضررًا بالإنسانية من انتصار النازية).


ورغم حرمان الأنظمة الشيوعية للفرد من حرية الاختيار، فإنها لم تخرب نظام التعليم، بل توسعت في العلوم والفنون لتنافس الغرب. اقتصرت رقابتها على السياسة فقط، وأذكى التعليم فيها موهبة الإبداع وأطلقت للأفراد حرية الخيال في الفنون والآداب.


صحافيون سمعوا فقط بـ«ربيع براغ» (أغسطس 1968 ضد الهيمنة الشيوعية السوفياتية، والتي مهدت لثورة velvet revolution 1989 التي أعادت الوضع إلى ما كان عليه عشية الحرب الثانية) طبعوا عملة مزيفة سموها «الربيع العربي» ظانين أن براغ (سكانها مليونان وقتها) ستتكرر في وحدة تضم 15 مجموعة عرقية في ست أمم مساحتها الجغرافية ضعفا أوروبا! وليس في أي بلد منها ذكريات تاريخ وخبرة ديمقراطية برلمانية ممتدة كبلدان شرق أوروبا، وظل نظام التعليم فيها والثقافة الذهنية العامة خاضعة للنسخ عن الثيوقراطية والتركيبة السلطوية الهرمية في الدول العريقة أو تركيبة السلطة القبلية في الدول الحديثة نسبيا.


التقرير الصحافي هو المسودة الأولى للتاريخ، وأثناء التفاعل الاجتماعي (شبه) السياسي الذي بدأ في يناير (كانون الثاني) 2011 كان jury still out (تعبير إنجليزي الأقرب لترجمته «المحلفون لا يزالون في المداولة» أي لم يصلوا لقرار البراءة أو الإدانة). كان الوقت مبكرا لاستخدام تعبير «الثورات».


كصحافي لاحظت غياب برنامج يعرضه «ثوار» ميدان التحرير على الـ99 في المائة الباقية من سكان مصر. أثناء انتفاضة الـ18 يوما لم تكن عفوية كاحتجاجات رفع الدعم عن السلع في 1977، بل كان لها بروفة مصغرة في 6 أبريل (نيسان) 2009. كان أمام مثقفي الطبقة الوسطى الذين أشعلوا لهيبها 22 شهرا فلم يضعوا برنامجا محددا حتى مشروع دستور كجيل ثورة 1919 ناهيك بالثورة الفرنسية أو الثورة الأميركية.


حال تونس أفضل نسبيا بفضل نظام تعليمي شكلته ثقافة فرنسية متحررة العقل (كالتي أسس عليها محمد علي باشا نهضة مصر وتبعها الشرق كله في مطلع القرن التاسع عشر متأثرا بتركة الحملة الفرنسية) وإرث لا يجب التقليل من شأنه تركه الحبيب بورقيبة كمساواة المرأة وتطوير الموروث الثيوقراطي لتحرير الثقافة الفنية والتعليمية. لكن مطالب (وربما هتافات) الجماهير ركزت فقط على إسقاط الرؤساء، زين العابدين بن علي، فحسني مبارك، فعلي صالح، فالقذافي، فبشار الأسد. وسهل غياب المشروع السياسي الاجتماعي على جماعة الإخوان بهدفها بعيد المدى (طز في مصر) القفز فوق دماء ضحايا الميادين بلا تكبدها أية خسائر لتخلص مجرميها أولا من السجون، ثم تعرض صفقة على المخابرات عشرة أيام قبل أن يخطر الجيش مبارك بضرورة الرحيل، ثم الاستيلاء على البلد في غضون عام.


هل كان لمثقفي وسائل التواصل الاجتماعي حلم مدون (كالعودة للديمقراطية البرلمانية 1922 - 1954) يتجاوز هتاف الشارع «ارحل»؟ وعندما سأل الشعب: «وبعدين؟» تقدم الإخوان بالإجابة. انتفاضات بلا نظرية حلم يلهب العقل الجماعي لا تتطور إلى ثورات.


الثورة الأميركية بدأت بتمرد على الضرائب فرضها برلمان وستمنستر (وجد متمردو المستعمرات في الملك جورج الثالث نصيرا فلم تكن طالبت بالاستقلال عن بريطانيا بعد) مهدت لها تنظيرات وكتابات توماس بين Thomas Paine المفكر الإنجليزي الذي ذهب إلى أميركا في القرن الثامن عشر لتصبح كتبه «عصر العقل» (Age of Reason)، و«حقوق الإنسان»، و«الفطرة السليمة» (commonsense)، بلورة ثورة العقل على القوى المسيطرة، فتطورت حركة تمرد، بمطالب اقتصادية ومالية، إلى ثورة سياسية (بالاستقلال) واجتماعية وإنسانية بالدستور الأميركي وتحرير العقل ليصبح الفرد هو أساس الديمقراطية والحكومة في خدمته لا العكس.


ثمرة عصر التنوير كانت الثورة الفرنسية التي مهدت لها أفكار وأعمال جان جاك روسو، وكانط، وآدم سميث، وفرنسيس بيكون، وديكارت، وفولتير، ولووك. لم يوجد أمثالهم في بلدان 2011 ليبلور شباب «فيسبوك» من أفكارهم مشروعا كالثورة الفرنسية أو الأميركية.


النسخة المصرية لعصر التنوير بعودة بعثة رفاعة الطهطاوي من باريس ووهج وزارة معارف علي باشا مبارك ولدت ثورة 1919 والتجربة البرلمانية المصرية (عاشت لثلاثين عاما فقط لم يبق من معاصريها إلا نفر من المسنين) حتى خرب مولد كهرباء التنوير بشمولية وزارة التربية والتعليم، التي أغلقت أذهان التلاميذ، وانهزمت نظرية المعرفة أمام خيرزانة الفئي (الفقي) في كُتّاب (بضم الكاف) تحفيظ القرآن دون فهم معانيه، وسجن الخيال في «الرقابة الذاتية» في العقل الباطن للتلميذ.


وحتى تحدث الثورة في الأذهان وتدخل المنطقة عصر العقل فلا هي ثورات ولا ربيع ولا يحزنون.

&