&توفيق السيف&&&

قانون «العدالة ضد رعاة الإرهاب» الذي أصدره الكونغرس الأميركي الأسبوع الماضي، يمكن النظر إليه من زوايا كثيرة؛ سياسية وقانونية. إلا أن أهميته تكمن في تشريعه واحدًا من أبرز التحولات في النظام الدولي، ألا وهو إلغاء، أو على الأقل تهميش، مبدأ السيادة الوطنية للدول.

يمثل هذا المبدأ ركنًا أساسيًا لنظام العلاقات الدولية. وهو يستهدف بشكل مباشر الحيلولة دون حل النزاعات بالقوة، من خلال ضمان المجتمع الدولي حدود كل عضو من أعضائه وسيادة حكومته على أراضيها. هذا يعني بصورة محددة التزام الدول الأعضاء باحترام ما تقتضيه سيادة كل منها على أرضها، بما فيها مثلاً الامتناع عن القيام بالإجراءات الأمنية والقضائية التي تنطوي على مزاحمة للدولة التي يقيمون على أرضها.

توافق العالم على هذا المبدأ ومجموعة المواثيق والاتفاقيات التي يتألف منها القانون الدولي، يعبر بجلاء عن نضج البشرية وعقلانيتها، وقدرتها على حل مشكلاتها عن طريق الحوار بدل الحرب. وفقًا للقانون الدولي، فإن القضاء المحلي في أي دولة لا يستطيع محاكمة الدول الأخرى، سواء في الأعمال التي تقوم بها أجهزتها الرسمية أو يقوم بها مواطنوها من دون تكليف رسمي، لأن ولاية القضاء الوطني محدودة بالحدود الإقليمية للدولة. وهذا هو سر الضجة التي أثارها إصدار القانون المعروف بـ«جاستا».. فهو يمدد ولاية القضاء الأميركي إلى كل مكان في العالم، ويمكنّه من إلزام الحكومات الأجنبية بتحمل مسؤولية الأعمال التي يقوم بها أي من مواطنيها، بغض النظر عما إذا كان مفوضًا من جانبها أو متمردًا عليها.

معلوم أن الولايات المتحدة وكثيرًا من دول العالم الأخرى تقوم دائمًا بتجاوز سيادة الدول، بما فيها أبرز حلفائها. ولعل القراء يتذكرون النقد العلني الذي وجهته مستشارة ألمانيا الاتحادية إلى واشنطن منتصف العام الماضي بعدما انكشف تجسس المخابرات الأميركية على هاتفها. وقد كشف النقاب يومها عن تورط الأميركيين في التجسس على رؤساء فرنسا ووزرائها وزعماء دول أخرى، بمن فيهم رئيسة البرازيل السابقة، التي ألغت رحلة مقررة إلى واشنطن في 2013 بعد انكشاف التجسس الأميركي على مكتبها.

أقول إن الولايات المتحدة اعتادت خرق سيادة الدول الأجنبية، وهذا أمر معروف في الماضي والحاضر. لكن ما يجعل قانون «جاستا» استثنائيًا هو أنه اعتبر هذا الخرق «حقًا قانونيًا»؛ ليس فقط للحكومة الأميركية، بل وحتى للمواطنين العاديين. وهذا يعني - من جهة - أن أي مواطن أميركي يستطيع الادعاء على الدول الأجنبية، كما يشكل سابقة قانونية وسياسية، يمكن للدول الأخرى أن تحتذيها بتشريع قوانين مماثلة، تسمح بالادعاء على الولايات المتحدة أو غيرها، الأمر الذي يغير كليًا جوهر نظام العلاقات الدولية، الذي كان متعارفًًا حتى اليوم.

هناك بالطبع إجراءات انتقامية يمكن للدول المتضررة اتخاذها لمواجهة القانون الأميركي. لكن الاستقرار والسلام العالمي يتطلب إجراءات أكثر جذرية؛ من بينها في رأيي دعوة الأمم المتحدة ودول العالم جميعًا لإعادة تأكيد مبدأ السيادة الوطنية وحق كل دولة في رفض أي إجراء انفرادي يؤدي لتجاوز هذا المبدأ من جانب الدول الأخرى. كما قد يتطلب الأمر مراجعة المواثيق الدولية المنظمة للعلاقات بين الدول، لملء الثغرات والنواقص التي استدعت قيام واشنطن أو غيرها بإجراءات من جانب واحد. لقد تغير العالم في العقود الثلاثة الأخيرة على نحو يستدعي تطوير القانون الدولي الذي يرجع في معظمه إلى منتصف القرن العشرين. وأظن أن الدول الصغرى هي الأكثر حاجة إلى هذه المراجعة.

&&

&