ارشد هورموزلو &&

كنت قبل أيام على شاشة فضائية عربية والمحاور يسألني بإصرار عن العثمانية الجديدة والعثمانيين الجدد، وعما إذا كان هذا المفهوم تعبيراً عن رغبة ملحة في تركية لبسط نوع من النفوذ.

وقد واجهنا تكراراً ومراراً هذا السؤال أو الطرح أو الاتهام، لتسمونه ما شئتم. ولكننا أكدنا الحفاظ على مقومات الدولة وعدم انهيارها بعد سقوط السلطنة العثمانية وشددنا أيضاً وفي شكل متواصل أنه لا توجد هناك عثمانية جديدة كما لا توجد أموية جديدة أو عباسية جديدة. فكل حقبة لها مفهومها ومدلولاتها الخاصة.

قلت إننا في تركيا نزرع حديقتنا بالشكل الذي يرضي أجيالنا وأولادنا وأحفادنا ولا نفرض على أحد أن يزرع حديقته كما نفعل، لأن لكل منكم خصوصياته وأسلوبه وتطلعاته الخاصة. إلا أننا لا نحجب حديقتنا بأسوار عالية تمنع الآخرين من النظر إليها والاستلهام منها أذا أرادوا ذلك بملء إرادتهم.

قلت وأقول إن الدول التي تشكل هذه المنطقة صغيرة كانت أو كبيرة هي دول ذات ندية، نحترم حدودها وسيادتها وخصوصياتها، وإن هذه الحدود الجغرافية مقدسة وجديرة بالاحترام ولكننا نريد أن نزيل حدوداً أخرى تتمثل في الأفكار والمفاهيم ومشاعر الألفة والود ولا ضير في ذلك.

ويجب أن أقول في هذه العجالة إن "النموذج التركي" الذي كثر الحديث عنه منذ أكثر من عقد من الزمان غير صالح للتصدير نظراً للخصوصيات التي ذكرتها. إن استلهام جزء من التجربة التركية من جانب دول أخرى لا يشكل عيباً في حق هذه الدول كما أن استلهام تركيا تجارب أخرى أفرزتها مقومات الخصوصية والحداثة سواء كانت مصرية أو سعودية أو خليجية أو لبنانية مثلاً لا يضير تركيا إطلاقاً.

قد يكون الإشكال الذي حصل في أذهان البعض وبخاصة بعض كتاب الأعمدة العرب في الصحف العربية ما يقوله بعض القادة الأتراك عن مفهوم الدولة واستمراريته بعد سقوط السلطنة العثمانية، إذ إن مفاصل الدولة ومقوماتها قد استمرت والذي تغير هو النظام الذي استبدل بالنظام الجمهوري إلى أن وصلنا الى هذه المراحل.

ولكن لم يبشر أحد إطلاقاً بهيمنة أو نفوذ أو إحياء للسلطنة أو بعثمانية جديدة. من هذا المنطلق استسمح زملائي الأعزاء من عرب وعجم لأن لا يغلفوا اعتراضاتهم الأخرى على شكل النظام أو سيره أو سياساته بدعاوى عثمانية جديدة ولا بعثمانيين جدد.

قد يكون السبب في كل هذا الإشكال ما اختلط في ذهن هؤلاء الكتاب حول هوية تركيا وعما إذا كانت تعيش أزمة هوية من أي نوع كان. يتساءل البعض، أين تقف تركيا وما هي هويتها؟ أهي أوروبية أم شرق أوسطية؟ وقد قلنا ونقول إن تركيا تطير بأجنحة متعددة. هي عضو مؤسس في المجلس الأوروبي وفي منظمة الأمن والتعاون الأوروبي وعضو فاعل في حلف شمال الأطلسي ولها اتفاقية للإعفاء الجمركي مع الاتحاد الأوروبي منذ عام 1996 ومرشحة حتى ولو استمر هذا الترشيح من دون نتائج تذكر لعقود طويلة للانضمام إلى الاتحاد الأوربي.

ولكنها عضو أيضاً في منظمة التعاون الإسلامي وعضو مراقب في الجامعة العربية ولها اتفاقية للتعاون الإستراتيجي مع دول الجامعة وأخرى مع مجلس التعاون الخليجي، لأنها اتبعت في العقود الأخيرة "سياسة الرجوع" إلى عمقها التاريخي والديني والثقافي والاجتماعي. إلا أن تركيا لا تقيم علاقاتها مع دولة أو منطقة ما على حساب علاقتها مع دول أخرى ومناطق أخرى وهذا ما أعنيه برفض تركيا سياسة المحاور والاستقطاب والتخندق.

فإذا كانت الدول التي تحترم تركيا سيادتها وخصوصياتها وحدودها واثقة من نفسها ومن صحة موقفها فليس هناك ما يدعو من التوجس بأن تركيا لها مطامع إقليمية أو أنها تريد أن تبسط نفوذها بطريقة أو أخرى. لقد كانت الإمبراطورية العثمانية تضم دول البلقان في أوروبا أيضاً، وتسارع تركيا حالياً إلى مد يد المساعدة وقد قامت بترميم الكثير من الجسور والمساجد التاريخية في هذه المنطقة مثل جسر موستار مثلاً، أو تساهم في إنشاء الطرق الحديثة في البوسنة وغيرها. ولكن لا أحد يتحدث عن نفوذ ما تتوسل إليه تركيا في هذه المناطق بل يقابل هذا المجهود بالترحيب والمودة.

أقول من هذا المنطلق إننا يجب أن نترك هذه الأقاويل والتوجس والالتفات لما يريد أن يزرعه الآخرون في أذهاننا من أمور ليس لها أية صلة بالواقع وأن نلتفت إلى التعاضد والتكامل ومساعدة بعضنا البعض في وقت أصبحنا فيه لا نميز فيه بين العدو والصديق الحقيقي.

من الطبيعي أن يكون هناك اختلاف في وجهات النظر بين الدول كما هو الحال بين الأفراد. وقد يستاء بعض القادة في دولة ما من موقف الآخر في قضية مصيرية أو سطحية. ولكن لا يمنع هذا من التفافنا حول القواسم المشتركة. لعل أكثر ما يجب في هذه الحالة، أن يعرب المستاء عن تحفظه من دون الانزلاق في متاهات الحملات الإعلامية وتلك المضادة، فسيأتي اليوم الذي يتمنى من انخرطوا في هذه العملية أنهم لم يفعلوا ذلك أبداً عندما تتضح الحقائق ويحتضن الأخوة بعضهم البعض مخلفين وراءهم نزاع الماضي.

في نهاية اللقاء سألني محدثي عما إذا كان ما أقوله هو رأيي الشخصي، قلت له بل هذا ما يشعر به ويصرح به القادة الأتراك.

&&