&سليم نصار

&&الأسبوع الماضي، غيّب الموت شمعون بيريز (93 سنة)، الذي يعتبره الإسرائيليون آخر سياسي من رعيل المؤسسين. خصوصاً أنه أمضى آخر ستين سنة من عمره في خدمة المشروع الصهيوني.

ومع أن رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتانياهو، لم يكن مؤيداً لجهوده المنصبَّة على تحقيق السلام مع الفلسطينيين، إلا أنه استغل حضور زعماء الدول أثناء الجنازة ليثني على إنجازاته، ويصفه بصاحب الرؤية الصائبة!

وقد تكون المرة الأولى التي تستعين فيها الحكومة الإسرائيلية بجهاز الأمن العام (الشاباك) من أجل الحفاظ على الأمن، ومعاونة رجال الشرطة على تنظيم جنازة حضرها أعضاء تسعين وفد عالمي.

وعلى رغم كثافة الحضور، إلا أن وجود رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، مع ثلاثة من كبار معاونيه، كان الحدث المقلق الذي أثار استغراب نتانياهو. والسبب، أن عباس لبى دعوة عائلة بيريز، في حين امتنعت الحكومة عن دعوته. وعليه، رأى رئيس الحكومة أنه كان من الأفضل لعباس تقديم واجب العزاء في منزل الفقيد وليس في المحفل الذي لم يُدعَ إليه.

وزير الشؤون المدنية في حكومة السلطة، حسين الشيخ، دافع عن موقف عباس بالقول إن الهدف من حضور الوفد الفلسطيني كان تسجيل التفاتة تقدير لسياسي خالف زعماء الأحزاب الأخرى، وارتضى الانتقادات اللاذعة في سبيل المشاركة في صوغ اتفاق أوسلو.

ومن هذا المنطلق، يرى أبو مازن أن حضوره جعل الرئيس الأميركي باراك أوباما يقول في كلمة التأبين: «إن حضور رئيس السلطة الفلسطينية في الجنازة يذكرنا بأن السلام لم يتحقق بعد، وإن حلم بيريز لم ينجز بكامله».

كذلك، عقد الرئيس الإسرائيلي رؤوفين رفلين، اجتماعاً جانبياً مع عباس أشاد فيه بحضوره الجنازة، وأكد أهمية بناء الثقة بغية إنجاز التقدم في مسيرة السلام.

الأديب اليساري عاموس عوز، الذي اختارته عائلة بيريز لإلقاء كلمة باسمها، انتقد نتانياهو في صورة غير مباشرة عندما قال: «لا مناص من تقسيم البلاد ومن تقسيم البيت الى شقتين. كلنا ندرك ذلك، ونسأل: أين القادة الشجعان الذين يجرؤون على مواصلة طريق بيريز؟».

لكن فكرة المشاركة لم ترقْ لعدد كبير من الفلسطينيين، إن كان داخل «حماس» أم داخل حركة «فتح». لذلك، هاجم بعض الكتاب والمعلقين سياسة الهرولة، مذكّرين أبو مازن بضرورة مراجعة التاريخ الدموي الذي كتبه بيريز، وبأنه كان ذئباً بجلد حمل!

هل ينطبق هذا الوصف على شمعون بيريز؟

وُلِد شمعون (شيمون) بيريز سنة 1923 في بلدة بولندية تدعى «فيشنيفا»، لعائلة صهيونية هاجرت الى فلسطين سنة 1934. وبما أن الوالد كان يتاجر بالخشب، فقد استطاع أن ينقل هذه المهنة معه الى تل أبيب. وبعدما انضم الفتى شمعون الى عائلته في الكيبوتز، حرص الوالد على إرساله الى مدرسة ابتدائية بهدف إعادة بناء اليهودي الجديد، وتلقينه مبادئ العقيدة الصهيونية.

في سن الخامسة عشرة، انضمّ بيريز الى عصابة «الهاغانا». وكان عليه أن يقسم يمين الولاء للصهيونية، ويباشر تمارين التدرب على استخدام السلاح. وقد أسندت إليه عملية المشاركة في حماية الكيبوتز من العرب الذين يطلقون النار على المجمع بعد حلول الظلام. خلال مرحلة التأقلم، تعرف الشاب المهاجر الى شخصيات يهودية نافذة كانت تدير شؤون القادمين من بلدان مختلفة، في طليعتهم ديفيد بن غوريون ومناحيم بيغن.

ويبدو أن بن غوريون ارتاح الى أداء الشاب البولندي الأصل، بدليل أنه اختاره معاوناً له. وبعد قيام دولة إسرائيل، عهد إليه بمهمة شراء أول صفقة سلاح بطريقة قانونية. وبعد تفكير طويل، سافر شمعون الى فرنسا لتنفيذ عملية شراء الأسلحة.

لماذا اخترت فرنسا، وتجاهلت الولايات المتحدة؟ هذا السؤال طرحه عليه الإعلامي الفرنسي أندريه فرساي. وبرر شمعون خياره بالجواب التالي: «مطلع الخمسينات، أصدر الكونغرس الأميركي قانوناً ينصّ على حق واشنطن في مراقبة كل دولة تبيعها أسلحة. وخشيت من أن تحدّ تلك المراقبة الرسمية من حرية القتال. لذلك، سافرت الى فرنسا بعدما تم تعييني مديراً عاماً لوزارة الدفاع».

وأكمل شمعون في سرد حججه قائلاً: «ذهبت الى فرنسا سنة 1954، حيث التقيت زعماء الأحزاب السياسية المختلفة. وشرحت لهم أخطار التهديدات التي نتلقاها من العرب، وطلبت منهم مساعدتنا على إعادة التوازن لسباق التسلّح في الشرق الأوسط. وأسعفني على تحقيق هذه الأمنية عدد من المثقفين والإعلاميين من أمثال: موريس بورغيز وآبيل توما وبول رينو وجاك شابان ديلماس وأندريه مالرو والجنرال بيار كوينغ».

إضافة الى مساندة المتنفذين الفرنسيين، حظي شمعون بيريز بدعم آخر من حكومة الاشتراكيين برئاسة غي موليه. وتوصل الفريقان الى اتفاق سرّي يقضي بأن يمد الفرنسيون إسرائيل بمختلف الأسلحة الثقيلة والخفيفة، إضافة الى الإشراف على إنتاج القنبلة الذرية في مفاعل «ديمونة» النووي.

وهكذا استطاع بيريز أن يعيد توازن القوى المتصارعة في الشرق الأوسط، لمصلحة الأمن الإسرائيلي بواسطة الاستئثار بالقوة النووية. وإسرائيل حالياً، تملك مئتي رأس نووي، الأمر الذي دفع موشيه دايان أثناء حرب العبور الى التهديد باستعمال هذا السلاح الفتاك. وكانت النتيجة أن أمر هنري كيسنجر بفتح الترسانة الأميركية، لإنشاء جسر جوي فرض نقل الدبابات التي حسمت الحرب في معركة الدفرسوار.

وعندما قررت إسرائيل مشاركة بريطانيا وفرنسا في الاعتداء الثلاثي على مصر سنة 1956، كان شمعون بيريز في عداد الوفد المفاوض الذي اختاره بن غوريون بسبب علاقته الوثيقة بأعضاء الحكومة الفرنسية برئاسة غي موليه. ويعترف موشيه دايان في مذكراته، بأن بيريز لعب دوراً مهماً في إقناع الفرنسيين بضرورة التشاور مع جنرالات بلاده، كون إسرائيل تعتبر الدولة المتضررة من إقفال مضائق تيران.

في احتفال التأبين، أشاد رئيس الحكومة الإسرائيلية بصديقه الراحل أمام رؤساء الوفود. هذا مع العلم أن الكل يعرف عمق الكراهية التي يحملها في صدره لمَنْ يعتبره المسؤول غير المباشر عن مقتل شقيقه جونثان، قائد حملة الإنقاذ الى مطار عنتبي في أوغندا.

حدث ذلك في آخر حزيران (يونيو) سنة 1976، عندما نجحت المقاومة الفلسطينية في خطف طائرة تابعة لشركة «آر فرانس» كانت متوجّهة من مطار اللد الى باريس وعلى متنها 105 ركاب. وعندما حطت في مطار عنتبي، طالب الخاطفون بإطلاق سراح أربعين سجيناً فلسطينياً، وإلا فإن جميع الركاب الإسرائيليين سيواجهون الموت.

الثابت أن رئيس وزراء إسرائيل إسحق رابين، باشر في فتح قناة التفاوض مع الخاطفين بواسطة فرنسا. وانتقده شمعون بيريز لاعتقاده بأن التفاوض هو دليل ضعف. واقترح عليه خطة بديلة تقوم بتنفيذها فرقة من الكومندوس. وبالفعل، طارت الفرقة مسافة 2.500 ميل، ونزلت في مطار عنتبي لتغتال الخاطفين وتنقذ الركاب.

قائد الفرقة جونثان وحده قُتِل في حينه. لذلك، بكاه شقيقه نتانياهو كثيراً وأقام لذكراه مركزاً في واشنطن لمكافحة الإرهاب. لكنه ظل يحمل في قلبه كراهية عميقة لشمعون، كونه المسؤول عن فكرة عملية الإنقاذ.

اللبنانيون، بالنسبة الى بيريز، يحملون في ذاكرتهم مأساة «قانا»، وما نتج منها من تداعيات مقلقة، أجبرت في نهاية الأمر رئيس وزراء إسرائيل على تحميل ضباط الجيش مسؤولية مجزرة قانا.

حدث ذلك في 18 نيسان (أبريل) 1996، عندما بدأت إسرائيل في تنفيذ عملية «عناقيد الغضب» بهدف ضرب المقاومة اللبنانية. وقامت طائراتها الحربية بضرب تجهيزات تخص «حزب الله». كما هاجمت موانئ بيروت وصيدا وصور ومحطة الطاقة الكهربائية في محلة «الجمهور».

وعندما تركز القصف على منطقة الجنوب، اضطر سكان القرى المجاورة للجوء الى مراكز الأمم المتحدة، طلباً للمأوى والحماية. ولما ردّت المقاومة اللبنانية بقوة على الاعتداءات، ردّت طائرات العدو بتنفيذ أكثر من 1.100 غارة، كما أطلقت المدفعية 25 ألف قذيفة.

جزء كبير من السكان لجأ الى مركز القيادة «فيجي» التابع لليونيفيل في قرية قانا الجنوبية. لكن الحصانة المعنوية التي توقع الهاربون أن تحميهم سقطت هي الأخرى تحت نيران عملية «عناقيد الغضب». وأدى قصف المقر الى استشهاد 106 أشخاص وإصابة المئات غيرهم بجروح وحروق.

بعد ذلك، أجرت منظمات عالمية عدة تحقيقات حول المجزرة، أكدت فيها أن القصف كان متعمداً، وليس نتيجة خطأ تقني كما ادّعى بيريز.

كيت مايكل بازوهير، واضع مذكرات شمعون بيريز، يقول إن الأمير تشارلز والأميرة ديانا دعياه الى حفلة عشاء في «قصر كنزنغتون».

ولما أطلّ المحتفى به وحيداً سألته الأميرة ديانا عن زوجته، ولماذا لم ترافقه الى بريطانيا؟

وأجابها بلهجة ساخرة: زواجي من السياسة، أفقدني زوجتي سونيا...

والموت أفقد إسرائيل آخر رموز المؤسسين!.