&بكر عويضة&

يحق لحركة «حماس» أن «تزف» أحد عناصرها بعد تنفيذه هجوم القدس الأحد الماضي. وقد يجوز للشاب حمزة أسامة بن لادن السعي لإعادة اسم والده على خارطة العالم الإعلامية، وربما وراثته على رأس هرم تنظيمه، إنما ليس له إقحام القدس في قاموس مفرداته بزعم أنها «عروس ودماؤنا هي مهرها»، ذلك أنها أساسًا ليست عروسًا تنتظر مهرًا من أحدٍ، ثم إن ما لحق بقضية فلسطين من ضرر جراء إرهاب تنظيم «القاعدة»، قبل جريمة 11 سبتمبر (أيلول) 2001 وبعدها، يكاد يفوق أضرار أي طرف تاجر بفلسطين المأساة والأرض والشعب.

معروف أن دغدغة الأحاسيس في لغة الخطابة والقصيد فنٌ قديم عند العرب، ولدى غيرهم من الشعوب. لذا، عندما تقول «حماس» في بيانها الأحد الماضي إنها «تزف ابنها الشهيد المجاهد مصباح أبو صبيح منفذ عملية القدس البطولية»، فإن بلاغة التعبير هنا تظل مفهومة المقصد، بصرف النظر عن تقبّل مفاهيم الحركة، أو الاختلاف معها، ففي نهاية المطاف، حتى لو انتسبت «حماس» عقائديًا لتنظيم «الإخوان المسلمين» العالمي، فإنها تبقى حركة فلسطينية تأسست في فلسطين، ونشطت على أرضها في مقاومة جيش يحتلها، ثم إن عددًا من أبرز مؤسسيها، وفي مقدمهم الشيخ أحمد ياسين، إسماعيل أبو شنب، عبد العزيز الرنتيسي، وغيرهم، قدموا أرواحهم جنبًا إلى جنب شبان عناصرها. أما بلاغة حمزة بن لادن المفاجئة في المشهد الفلسطيني، فهي تنطع خطابي لن ينطوي على أحد ذي بصيرة، مثلها في ذلك مثل الذي نسب القدس للعروبة ثم راح يستخدم قبيح القول كي يوجه باسمها فحش السباب للزعماء العرب.

عندما مرّ بي الأسبوع الماضي كلام حمزة بن لادن عن القدس، وجدتني أتساءل: مَن قال لهؤلاء الناس إن القدس معروضة في سوق عرائس، تنتظر عروض دافعي مهرها؟ واقع الستين عامًا الماضية المُر يقول إن زاعمي ذلك كثر. كلٌ منهم ادعى وصلاً بأرض المسجد الأقصى وكنيسة القيامة، وكلهم زعموا شوقًا لمِسك المدينة وعبيرها، لكنهم راحوا يرددون مزاعمهم تلك كلامًا يعقبه كلام، وإذ تُطوى الصفحة تجدّ مناسبة توجب إصدار بيان جديد، فإذا بالعروس لا تزال تنتظر، وإذا الدماء لم تزل تجري، إنما بمنتفخ الأوداج، حناجر تصرخ بأفئدة من هواء، كلام كأنه ماء أجاج، لا يروي ظمأ أرض تبتلعها غيلان المستوطنات فيما يطلق البعض القدس اسمًا لفيالق ليس لفعلها علاقة بفلسطين وقضيتها، أما الصارخون ببلاغة الخطاب فيستنسخ بعضهم بعضًا، يتسلم الراية آتون جدد من متقاعدين تعبوا. لله درك يا قدس، لئن عجبتُ لكبرياء صمتك، فإني لست أعجب لصبرك، إنما ذات يوم آتٍ، سوف تضعين حيث يجب أن يوضع، كل من تاجر بمهرك زيفًا، وكل باع بحق صمودك حقًا، واشترى بانتماء عروبتك باطلاً، فقط لإرضاء هوى، أو إشباع غرور الأنا، أو ضمان رضى من عيّنه له وكيلاً.

كلا، القدس ليست عروس أحد ممن يصدر بلاغات خطب بليغة المفردات. مدينة المسجد الأقصى وكنيسة القيامة هي، باعتراف العالم كله، أرض محتلة منذ هزيمة العرب في يونيو (حزيران) 1967، ويقرّ بذلك من احتلوها، وإن زعموا أنهم فقط استعادوها، ولئن تعذّر استرجاع شرقها عبر العمل المسلح، على نحو عملية «حماس» بحي الشيخ جراح الأحد الماضي، فقد كان ممكنًا، ولا يزال، دفع مهر الحفاظ على هوية شوارع القدس العتيقة، إسلاميًا ومسيحيًا، من خلال دعم صمود أهلها، بمساعدتهم على ترميم المنازل، بتقديم العون لبناء المدارس، إلى غير ذلك من أوجه تثبيت عروبة القدس بدل توجيه فحش السباب باسمها، لكن الذي حصل، ولم يزل، أنه تحت مظلة «مقاومة التطبيع» تُرك أهل القدس، مسلمين ومسيحيين وحدهم في مواجهة تغول الاستيطان، وبدل التشجيع على زيارة الأقصى وكنيسة القيامة، سيطر غلو تخوين العرب والمسلمين إذا هم أدوا واجب الصلاة في المسجد أو الكنيسة.

تُرى، لماذا كل هذا الإصرار، ولو بلا وعي، على محاكاة امرأة حمقاء وردت الإشارة إليها عبر صورة قرآنية (النحل - 92) إذ كانت كلما أتمت إبرام غزلها نقضته أنكاثًا. تقول التفاسير إن المثل ضُرب للتحذير من النكث بالأيمان، أو تباهي قوم على أقوام. ألا يبدو حال أغلب من تصدوا لزعامة تنظيمات تحرير أرض فلسطين منذ مطالع القرن العشرين، سواء داخلها أو خارجها، كحال التي تنقض غزلها، فكلما قويت الخيوط بين يديها نفخت فيها فإذا بها هباءً منثورا. أما من نهاية لدغدغة الأحاسيس وبلاغة مسارح العرائس، أم أن الحكاية لم تزل في بدايتها، ولو أن مُحتل القدس الشرقية سوف يحتفل العام المقبل بإتمام نصف قرن على استيطان متواصل؟

&&_____________

&