عبدالله الناصر

عندما كنا في أميركا ذهبنا لحفل تخرج طلبة سعوديين في ولاية "يوتا" وكان الوقت شتاء، وكان المخطط أن نذهب بالطائرة من هيوستن إلى مدينة "سولت ليك" ومنها إلى مدينة "أوقدن" بالسيارة، ولكننا عندما وصلنا قيل لنا إن الطريق قد سدته الثلوج وإنه لا سبيل لنا إلى مدينة "أوقدن" إلا عن طريق الطيران..

وظللنا في المطار قرابة الثلاث ساعات إلى أن تم استئجار طائرة لتنقلنا إلى هناك.. وكنا خمسة أفراد: الأستاذ سليمان الوابل – نائب الملحق، والأستاذ عمر البيز، والأستاذ عبدالله السدحان، والأستاذ عامر الغرير ومحدثكم. وكان هؤلاء من خيرة الرجال علمًا وعملاً ووطنية.. وبعد انتظارنا الطويل، قدمت إلينا فتاة شابة وقالت: تفضلوا الطائرة جاهزة.

وسرنا خلف دليلتنا إلى ساحة المطار متجهين إلى الطائرة، وظللنا نتابع الفتاة، وبعد مضي حوالي عشر دقائق من السير، اتجهنا نحو طائرة صغيرة الحجم، ونحن نقول هذه طائرتنا، غير أن الفتاة لم تتجه إلى تلك الطائرة بل اختفت وراءها، وكانت المفاجأة غير المتوقعة، إذ وقفت بنا أمام طائرة ضئيلة جدًا كانت تقف خلف الطائرة التي ظننا أنها طائرتنا، ولم نصدق أن هذه هي التي سنركبها وصار بعضنا ينظر إلى بعض، وكان كل منا يرفض في داخله أن يجازف بحياته، وكان كل منا يتمنى رفضاً من الآخر، ولكن خجلنا تغلب على شجاعتنا، ووقف الأستاذ عمر البيز وهو رجل طويل بجانب الطائرة وأخذ يضرب بيده على ظهرها وهو يقول: "أمحق من طيارة".. ولم يعد لنا من خيار، ودخلنا من بابها الضئيل الواحد تلو الآخر في وجوم وصمت، كان بها ستة كراسي صغيرة وسقفها متطامن بحيث إن الجالس الطويل يخبئ رأسه، وكانت ذات مروحة أمامية واحدة، وبمجرد أن ركبنا، درجت ثم هرولت بنا قليلاً ثم أقلعت.. كان الوقت عصرًا، وضوء الشمس الذهبي ينعكس على الجبال المغطاة بالثلوج، وكانت الطائرة منخفضة الارتفاع إذ ظلت تحلق بنا في قلب واد عملاق محاط بالجبال، والغابات العارية، وكنا نرى قطعان الوعول منتشرة في الجبال الثلجية، والغابات إلى درجة أننا نرى قرون الأيايل، ونرى دخان مداخن البيوت صاعدًا في الفضاء، في هذه الأثناء خرج علينا شخص طويل القامة نحيف اشقر الشعر، له وجه صبي ربما أن عمره لا يتجاوز الثامنة عشرة، وأخذ يسألنا عن انطباعنا عن الرحلة، فقلنا له إنها جميلة وممتعة، قال أنا سعيد بذلك أنا الطيار..! فأصبنا هلعا وفزعا، ونشفت أرياقنا من الخوف، أولا لصغر سنه، وثانيًا أنه ترك الطائرة وجاء يحادثنا ببرود، ولما رأى قلقنا ضحك، وقال لا تنزعجوا أنا أقوم بأربع رحلات يوميًا، ولم تحدث لي أية مشكلة إلا مرة واحدة، حيث اضطررت أن أهبط في الطريق العام! اصفرت وجوهنا وانتابنا ذهول، وسرت في مفاصلنا موجات من الهلع، وقال الأستاذ الوابل: "في الطريق العام..؟ رحنا فيها" ومضت بنا الطائرة في انسياب وهدوء، ولكن الدقيقة كانت تمر بمثابة الدهر، ثم بدأت في الهبوط، وأخيرًا لامست المدرج ثم استوت على الطريق ثم توقفت، قال الأستاذ عامر: الحمد لله على السلامة، "انكتب لنا عمر جديد" والتفت الأستاذ عبدالله السدحان وقال: "الحمد لله الذي أخرجنا من هذا التابوت" وبينما كنا نسير متجهين إلى مدخل المطار الصغير، رأينا منظرًا غريبًا ومحيرًا، ومدهشًا.. إذ رأينا مجموعة من الرجال، وهم يرتدون لباس الإحرام، وقد حلقوا رؤوسهم، ولبسوا أحذية خفيفة مكشوفة..! ظل بعضنا ينظر إلى بعض، ونحن غير مصدقين، وقال أحدنا: هل نحن في مطار "أوقدن" أو في مطار جدة..؟ وظلت الحيرة تعقد ألسنتنا إلى أن وفانا المستقبلون من الطلاب، وقلنا لهم وقبل السلام ما هذا الذي نرى..؟ فتضاحكوا وقالوا: هؤلاء حجاج..!

قلنا حجاج إلى أين؟ قالوا: إنهم حجاج "المورمون" إنهم يأتون من أنحاء أميركا للحج إلى كنيستهم "العظمى" هنا..! ولم نكن نعرف شيئا عن "المورمون"، وظل الطلبة يشرحون لنا عن فكرهم وعقيدتهم، وأنهم أصحاب ديانة مختلفة مأخوذة من عدة ديانات، أهمها اليهودية، والمسيحية، وأن لهم طقوسًا، وممارسات غريبة، وأن زعماءهم الدينيين لهم رتب متباينة، وأن هذه الرتب أشبه بحلقات متعددة تنتهي بحلقة الخاصة، والتي لا يعرفها العامة منهم، ولا يصل إلى معرفتها إلا القلة من الراسخين في العلم بأسرارها الخفية،.. ومؤسس المورمون هو جوزيف سميث والذي زعم أنه نبي، وأن مَلَكًا هبط إليه من السماء وهو في جبال "الروكي"، وأوحى إليه أنه رسول القارة الأميركية!.

والنورمون يحرمون الخمور بل والشاي والقهوة والبيبسي وكل المشروبات التي تدخل في تركيبها مادة الكافيين.. كما أنهم يؤمنون بتعدد الزوجات إلى تسع زوجات، ويتكاثرون في نسلهم، ونساؤهم متحفظات، ولا يلبسن إلا الملابس المحتشمة ولا يجوز عندهم أن يظهر من المرأة إلا وجهها..

وكانت إحدى الكاتبات الشهيرات في أميركا انتقدت الرئيس الأميركي بوش الابن لمهاجمته أفغانستان "المتخلفة" وقالت له في مقالتها: كان عليك أن تحرر نساء المورمون قبل نساء أفغانستان.

ويربو عدد النورمون في أميركا على عشرة ملايين ويقال إن عددهم في العالم يزيد على عشرين مليونا..

تلك قصة رحلتنا العجيبة الغريبة، ولعل أغرب ما فيها حكاية المورمون بأميركا التي يظن الكثير من الناس أنه من المستحيل أن يكون بها غلو أو تطرف ديني كالمورمون وكالآمش الذين يحرمون كل وسائل الحضارة بما في ذلك الكهرباء، ويستخدمون الحمير والبغال في مواصلاتهم، ويزوجون بناتهم قاصرات، أو كشهوديهوه الذين يحرمون نقل الدم ونقل الأعضاء من إنسان إلى إنسان..

بيد إنها أميركا التي شَرّعت الزواج المثلي في أخطر ظاهرة عرفتها البشرية منذ نشأتها الأولى، ولكن هذه هي الحقيقة التي لا ينالها، ولا يطالها النقد من بعض عشاقها والذين يرون أنها فردوس الدنيا، أما عبادها فيرونها فردوس الدنيا والآخرة! إنها أميركا صنم المعقدين، والجبناء، والشذاذ.. أميركا التي تدمر الأخلاق والفطرة، كما تدمر وتبيد بآلتها العسكرية المتوحشة ملايين البشر من على وجه البسيطة.