الحزب الاشتراكي الموحد والانتكاسة الانتخابية: أي دروس؟

الحزب الاشتراكي الموحد والانتكاسة الانتخابية: أي دروس؟

عبد اللطيف الركيك

أقل مما يمكن استخلاصه من مشاركة الحزب الاشتراكي الموحد في الاستحقاقات الأخيرة أن القائمين على هذا الحزب يعانون فعلا من عمى النظر وصم الاستماع، ولكنهم على مستوى النطق لا يزالون يحتفظون بطول اللسان الذي يهدي كيفما اتفق. وبهذه المناسبة لا بد من عرض ملاحظات حول هذه المشاركة وحول الحزب في حد ذاته.

أولا: أن شروط المشاركة الانتخابية لم تنضج بعد، ولم يقع الاعداد لها سياسيا واجتماعيا وفكريا، وفي غياب ذلك فهي تستحيل إلى نوع من الانتحار السياسي. فهل كان قادة الحزب مثلا ينتظرون اكتساحا انتخابيا لبرنامجهم اليساري؟ أم كانوا يتوهمون أن بوسعهم الظفر بمقاعد لتشكيل فريق نيابي؟ هل ملء الحزب ساحة الصراع الاجتماعي والتدافع السياسي بما يكفي حتى يغامر بهذه المشاركة التي كانت تبدو كارثية لكل ذي عقل؟ هل ساهم الحزب فعلا في إنضاج الخطاب السياسي؟ هل شارك في القضايا الاجتماعية بالقدر الكافي ووقف إلى جانب الحركات الاحتجاجية، وقد لا حظنا كيف لزم الصمت في قضية تخريب التقاعد وكأنه مشارك في المؤامرة الدنيئة ضد الموظفين؟ وهو مشارك فعلا، لأنه اختار عبر ممثليه النقابيين المقاطعة-الفضيحة أثناء التصويت على المشروع المشؤوم.

إن ما يلاحظ هو أن قادة هذه الحزب إنما ظلوا طول الوقت متقوقعين بعيدين كل البعد عن احتضان الحركات المطلبية والاحتجاجية، فلم نر أنه ساند عمليا، وأكرر عمليا، أي من هذه الحركات عدا المواقف الكلامية الباهتة. كما لم يبادر إلى قيادة حركة احتجاجية للدفاع عن حقوق الموظفين في وجه المشروع المشؤوم لتخريب التقاعد. كما أنه عدا بعض الخرجات، فإن موقف الحزب من الحكومة ومن قراراتها السياسية كان محتشما، بل نستطيع القول أنه كان الغائب الحاضر، المهادن للحكومة إزاء جميع التراجعات الخطيرة. وهنا بيت القصيد، أي غياب القدرة على اقتحام ساحة الصراع الاجتماعي عبر أجنحته والدفاع عن الفئات المقهورة واحتضان كل الحركات الاحتجاجية والمطلبية وتوظيف ذلك لتعزيز رصيده الجماهيري وإشعاعه السياسي. هذا كله لم يتم.

وهنا ننتقل للحديث عن الحزب في حد ذاته، فالقائمون عليه يتقوقعون خلف أفكار بالية معتقدين أنها كافية للفعل والتأثير والعمل في الساحة السياسية. أهم لا يقبلون حتى أن يكون آداؤهم محل انتقاد موضوعي حتى لا نقول نقد ذاتي. فهم يعتبرون أنهم يسيرون في الاتجاه الصحيح. إن الواقع العنيد الذي لا يريدون تقبله، هو أن هذا الحزب يعاني فعلا من أعطاب حقيقية إن لم تقع معالجتها ستزيد من معاناته وسترمى به حتما ضمن الأحزاب الذيلية التي لا تأثير لها في المشهد الحزبي والسياسي. إنهم لا يفتحون هذا الباب، وليسوا مستعدين لذلك. إنهم يتصرفون بمنطق الحلقية في الجامعات، إنهم يتصرفون كما لو أن الانتخابات ستجرى في إحدى الكليات أو في نوادي ثقافية مغلقة أو في صالونات المثقفين والمفكرين متناسين أنها جرت وتجري في قاع المجتمع البعيد بمسافات ضوئية عما تكلس في عقولهم من أفكار نخبوية مفصولة ومنزوعة عن الواقع الاجتماعي بالرغم من أنهم يدعون العكس.

لعل من أبرز أعطاب الاشتراكي الموحد هو التقوقع الفكري والأيديولوجي والسياسي والثقافي والاجتماعي. فهم يكتفون بالإعجاب والاعتداد بمعتقداتهم الفكرية وطهرانية طرحهم الأخلاقي معتقدين أنه بوسعها لوحدها أن تبوؤهم مكانة في الصراع الانتخابي. لقد أنتج هذا التقوقع تكلسا على الصعد كافة وانكماشا في الاشعاع الجماهيري للحزب، وكرّس هيمنة الأنوية الموجودة في الحزب والكولسة والإقصاء، بحيث تسيطر فئات معينة من "محترفي النضال" على الأجهزة الحزبية من العالية إلى السافلة ما يحرم الحزب من استقطاب أطر وكفاءات جديدة.

إن الذي يقع لهذه الأطر إن هي غامرت وقامرت بالدخول إلى هذا الحزب هو الإقصاء والكولسة والبيروقراطية الحزبية، بحيث يجدون بانتظارهم عتاة المحترفين في التنظيم الذين ينتظرون في صفوف طويلة ويمنعون كل قادم جديد من الاندماج والتأثير والعمل لصالح الكائنات التي استلذت الكراسي التنظيمية بلا طائل. فهناك الكثيرين من بين تلك الأطر التي دخلت ثم خرجت وهي محبطة بفعل بعض الممارسات غير الديمقراطية، ومنهم من انتقل إلى أحزاب أخرى وتدرج في أجهزتها وبات من خيرة أطرها، انتقلوا فوجدوا أنفسهم-ويا للعار-في الأحزاب التي نقول عنها أنها إدارية، وترشح بعضهم للانتخابات ووصلوا إلى البرلمان باسم هذه الأحزاب الإدارية.

فالخلاصة أن هذا الحزب يعيش على وقع تقوقع فكري وانحباس تنظيمي وانحسار على مستوى الاشعاع والاستقطاب. وهذه من الأعطاب الكبرى التي يتغافل عن قادة الحزب الذي يصرون على تكريس العمى الذي اشرنا إليه سابقا.

وأما على مستوى الخطاب، فإن لا شيء يحفز الناخبين في خطاب الاشتراكي الموحد، إنه يتصرف في الساحة السياسية-عدا بعض الخرجات والفقعات الإعلامية الموجهة موسميا للاستهلاك-بشكل عاد جد، وهو لا يختلف في أي شيء عن التجمع الوطني للأحرار أو الحركة الشعبية. إن سقف خطابه السياسي متدن وضعيف إلى حد يبعث على الاستغراب. فالواقع أن هذا الحزب لا ينازع في الاختيارات الكبرى في البلاد، وهو فقط يراهن على التسرب إلى البرلمان تماما كما يفعل الآخرون. إنهم ببساطة لا يريدون نضالا، ولا يقدرون عليه، ويريدونها "باردة". وهم بذلك مجرد رقم في قائمة الأحزاب المغربية الأخرى.

إن الفكر اليساري في بلادنا لم يلق التأييد الجماهيري والانتخابي في أوساط الشعب المغربي كما حصل في وقت سابق مع الاتحاد الاشتراكي في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي صدفة، وإنما كان مبعثه الحراك النضالي الجماهيري الواسع في ساحة الصراع الاجتماعي والمواقف الجريئة التي تظهر للناس واقعا على الأرض. فذلك ما يمكن استثماره انتخابيا. أما الانغلاق والتقوقع وانتظار منة من الشعب على أساس أن أفكارنا براقة ولامعة هو اعتقاد واهم في أن أفكار اليسار-فقط لمجرد كونها أفكارا يسارية- ستحوز التأييد والاعجاب والدعم الانتخابي والاشعاع والاستقطاب في أوساط الناخبين.

إن اقتحام المعمعة الانتخابية بالنسبة لليساريين العقديين لن يتأتى إلا بالعمل الميداني الدؤوب والمستمر والمتواصل في الساحات كافة. إنه لن يتأتى إلا برفع سقف الخطاب السياسي الجريء والمسؤول والواعي الذي يتوغل إلى صميم انشغالات الشعب. أما الاكتفاء بخطاب مهادن عادي ومستهلك والتفرج على مشهد سياسي مرتبك ثم انتظار معجزة انتخابية فهذا وهم ما بعده وهم.

ولعل القائمين على الاشتراكي الموحد لن تزعزع من يقينياتهم في شيء هذه الانتكاسة الانتخابية الأخيرة، وهم المعنيون أولا وأخيرا، علما أنها أثارت مشاعر الإشفاق من طرف الخصوم قبل الأصدقاء. ومن المؤكد أنهم سيستمرون في إغلاق الأبواب دون فتح أي مجال للمسائلة والنقد الذاتي في سبيل التجاوز. أكيد أنهم سيستمرون ودون استفاقة بانتظار الزلزال الانتخابي المقبل.

وكل انتخابات والاشتراكي الموحد بخير.