سامر فرنجيّة

 من السهل انتقاد قرار سعد الحريري دعم ميشال عون في انتخابات الرئاسة اللبنانية واعتباره تنازلاً جديداً (وقد لا يكون الأخير) أمام قوى التعطيل والإرهاب. فعلى رغم الكلام عن الثورة والثروة، والمخاطرة والتسوية، والشجاعة والخسارة، يأتي الترشيح ليستكمل مسيرة هزائم طويلة، أرّخها الحريري ذاته بخطابه واستند إليها ليقوم بخطوته هذه. فهذا الترشيح، كما أكدّ فريق المرشح، نصر سياسي لهم. فـ»ماذا عساه كان فاعلاً بعد» كل هذه الأخطاء والهزائم والرهانات الخاسرة غير الخضوع الرسمي والعلني لابتزاز الخصم؟

إذا كان سهلاً انتقاد الخطوة، فذلك يصبح أسهل بعد معارضتها انطلاقاً من «مبادئ ١٤ آذار» أو ضرورة مقاومة «المحور الإيراني- السوري» أو الوفاء للشهداء في مواجهة حلفاء مرشحي الحريري. فهذا العناد بات أيضاً بلا أفق في ظل انتقال ساحة الصراع إلى سورية، ليصبح مجرّد وجه آخر للانتظار الذي تمر به البلاد، وقد يكون مغزاه الوحيد حسابات انتخابية أو كرامات شخصية أو مقاومات فردية. فالهزيمة تأكدت عندما انحصرت الترشيحات بين مرشحي هذا المحور، ليصبح السؤال عن كيفية العيش تحت هيمنة «حزب الله». هكذا فانتخاب عون أو الامتناع عنه ليس إلا وجهين لخسارة واحدة، أو طرق مختلفة للتكيّف معها.

تنبع هاتان السهولتان من تناقض في خطاب قوى ١٤ آذار واكبها منذ نشأتها بعد اغتيال رفيق الحريري. فمن جهة، قدّم هذا التحالف نفسه كإطار جامع لتسوية تاريخية لم تحصل بعد انتهاء الحرب نتيجة الوصاية السورية. كما قدّم تظاهراته وجمهوره كنتيجة لدروس من الحرب، مفادها ضرورة الحوار والعيش المشترك ونبذ العنف والمحاور الخارجية. وشكّلت فكرة «١٤ آذار» كحركة سياسية نابعة من تجارب الحرب، ترفع شعار العيش المشترك، إحدى أساطيرها المؤسسة، التي التفّت حولها أحزاب وصلت إلى هذه النتيجة بطرق مختلفة. بهذا المعنى، لم تقدّم نفسها هذه القوى كطرف في صراع سياسي، بل كعنوان للتسوية التي تشكّل نموذج السياسة في لبنان. والتسوية تتم مع الآخر أو الخصم أو الشريك، لا مع النفس أو الحليف، مهما كان هذا الخصم سيئاً، ولو كان اسمه عون.

غير أنّ وجهاً آخر لـ١٤ آذار طغى على هوية هذا التحالف مع تكاثر الاغتيالات واستعمال العنف واحتدام الصراع الإقليمي، حوّله من إطار جامع إلى طرف في الصراع الدائر في البلاد والمنطقة، وإن كان الأضعف. فلم تعد التسوية التاريخية عنوان ١٤ آذار بل أصبحت هذه القوى خصماً في صراع، وتبحث عن تسوية مع الطرف الآخر. فبدل أن تشكّل عناوين ١٤ آذار، الضمنية والمعلنة، كالحياد والسيادة والتسوية، إطاراً للحل، تحوّلت مادة تجاذب وتفاوض، ما أفرغها من أي حمولة ميثاقية. وقد يكون المثل الأوضح عن التخبط بين الخطابَيْن أحداث ٧ أيار (مايو)، حيث ترنّحت ١٤ آذار بين دور الخصم والضحية، مطالبة بالتسليح المضاد وبالمسيرة السلمية معاً، لينتهي أمرها بالتسلّح السلمي.

سقطت ١٤ آذار الثانية أمام «حزب الله»، وهي التي لم تكن تملك أصلاً أي قدرة على مواجهته. أمّا ١٤ آذار الأساسية، فجاء سقوطها على يد القيمين عليها، والذين لم يفهموا التسوية إلاّ عودة إلى تحالفات التسعينات وتسوياتها، التي اعتادوا عليها قبل تحوّلهم إلى سياسيين سياديين. بهذا المعنى، قرار الحريري الأخير بتسخيفه التسوية وتلخيصها في رئاسته الحكومة المقبلة، قضى على المشروع الجامع الذي حملته، ولو للحظة، ١٤ آذار. أما خصومه المعاندون لانتخاب عون، فيستكملون طريقاً بات مسدوداً بحاجز الحرب الأهلية الذي رفعه «حزب الله».

استطاع الحزب استغلال هذا التناقض في ١٤ آذار عبر عملية ابتزاز معمّمة، تتوجت بانتخابات رئاسية، قد يكون عنوانها الوحيد الابتزاز. فابتز «حزب الله» الحكومات المتتالية بمقولة الثلث المعطل والتمثيل الشيعي، كما بالحرب الإقليمية والتهديد بالخيانة. واستكمل هذه العملية باستخدام العنف والتنبيه من حرب أهلية في آن. والفصل الأخير من الابتزاز كان تدخّله في سورية والتحذير بعده من الخطر التكفيري. لم يتحمّل الحزب دوره كلاعب أساسي في الساحة اللبنانية، مفضلاً ترك القيادة الرسمية تحت خطر الابتزاز الدائم.

وجاءت الانتخابات الرئاسية لتستكمل السطو الابتزازي على الدولة. ففرض عون مفهومه الابتزازي لموقع الرئاسة، وهو اعتبار الرئيس الماروني من يكون الأكثر شعبية ضمن جماعته. وصمد على موقفه الابتزازي على مدار سنوات، وانتظر انضمام خصومه إلى تفسيره الخاطئ للميثاق. وانضم جعجع إلى هذا الابتزاز بتبنّيه القانون الأرثوذكسي، قبل أن يدعم عون بوصفه المبتز الأساسي في طائفته. لكن الحريري كان سبقه في تبنّي هذا المفهوم بإطلاقه «يوم الغضب» في وجه إسقاط حكومته واستبداله بـ»سني ضعيف» كنجيب ميقاتي. مذّاك، بات انتخاب عون مسألة وقت، خصوصاً بعدما رفعت ١٤ آذار شعار الانتخابات الرئاسية كأولوية مطلقة.

لا مفرّ من انتخاب عون، لأن الابتزاز نجح، والنجاح ليس عائداً إلى كون قوى ١٤ آذار لم تستطع مواجهة الحزب سياسياً وعسكرياً وإقليمياً، كما يحلو لمعارضي الانتخاب الترداد، بل لكون ١٤ آذار، كعنوان للتسوية، خسرت، نتيجة الضربات المزدوجة للخصم والحليف المهووس بالخصم. فعون لم يأت لمجرّد امتلاك الحزب السلاح، بل لأنّه فرض على خصومه منطقه الابتزازي. فإذا كان «حزب الله» انتصر على الوجه الصدامي لـ١٤ آذار، فعون هو المسؤول عن القضاء على وجهها السياسي.

المفارقة هنا، أن عدم وصول عون إلى سدة الرئاسة قد لا يقضي على العملية الابتزازية المسيطرة على البلاد، بل قد يفاقمها، عكس ما يظن معارضو التسوية. غير أنه إذا كان لا مفرّ من الهزيمة، فهناك طرق لجعل الخسارة أقل. وهنا قد لا يكون الامتناع والعناد الطريق الأفضل، بل الخضوع من خلال الورقة البيضاء، هذا التصويت الذي يحوّل عون من مرشح يَبتز إلى رئيس يُبتز، و «حزب الله» من حاكم خفي يتمتع بإجماع رسمي إلى حاكم رسمي يمتنع عنه الإجماع. قد تكون خطوة كهذه «مجرّد» حركة رمزية لأصحاب السياسات «الواقعية»، ولكن لم تبق لهؤلاء خيارات كثيرة. فمعركة الرئاسة انتهت، وإن لم ينتخب عون غداً. أما معركة ما بعد الرئاسة، فهي التي ستحسم غداً.