حميد المنصوري

نجد أنفسنا أكثر تقبلاً لتضارب العلاقات التركية - الإيرانية بين التعاون والصراع، من منطلقات كون علاقات الدول المتجاورة جغرافياً غالباً ما تكون بها سمات التعاون والصراع والخوف والحذر من الجار، إضافةً إلى وجود تنافس بين الطرفين لاعتلاء مكانة إقليمية في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، ويأخذ هذا التنافس بعداً مذهبياً، وكل ذلك، مدفوع بالبعد التاريخي المثقل بالصراع والتنافس. ففي أيامنا هذه أصبح شمال العراق مسرحاً كبيراً للاعبين إقليميين مثل المحور الشيعي التوسعي بقيادة إيران وتبعية حكومة بغداد ونظام بشار والمليشيات الشيعية، مقابل حكومة أربيل الكردية، ووجود حزب العمال الكردستاني في شمال العراق والداخل في حرب مع حكومة أنقرة، وهناك تركيا وتقاطعها مع مصالح أطراف عربية، وليس من المبالغة القول إن مستقبل شمال العراق سيؤثر في أمن واستقرار الشرق الأوسط بشكل كبير من خلال وضع واستمرار الثورة السورية، والصراع المذهبي الشيعي السُني، وأمن تركيا ونمو القوة الإيرانية وأثرها في المنطقة والخليج أيضاً، ومدى تحقيق حكومة أربيل المزيد من الأمن والاستقلالية مع هذه الأطراف.

لِنمعن النظر في العلاقات التركية الإيرانية في إطارها الدولي، حيث نجد «تركيا وإيران» متداخلتين في محاور دولية بشكل لا يعكس سياسة محورية واضحة، فالعلاقات الإيرانية الروسية قوية ولها أبعاد إقليمية ودولية، كما أن العلاقات الإيرانية الأميركية قوية أيضاً في وضع العراق حيث هناك النفوذ الإيراني مع الحفاظ على المصلحة الأميركية في العراق ونفطه إلى جانب التفاهم النووي. بينما تركيا الحليف الأطول عمراً لواشنطن والغرب استطاعت خلق علاقة جيدة مع روسيا، فلم تمنع حادثة إسقاط الطائرة الروسية سوخوي والخلاف حول الثورة السورية من عودة العلاقات، خاصة بعد فشل الانقلاب العسكري على حكومة العدالة والتنمية المصاحب لتوتر العلاقة مع واشنطن. هذه المحاور الدولية مع الدول الإقليمية «إيران وتركيا» تزداد تعقيداً مع وجود مصالح اقتصادية وأمنية بين الطرفين «التركي والإيراني» مقابل وصول الطرفين إلى مرحلة من الصراع تتسع دائرتهُ اليوم من العراق حتى الشام.

فالعراق يحمل جواراً جغرافياً بالغ الأهمية، حيث يمتد من الخليج إلى الشام، فهو يجاور إيران والكويت والسعودية وتركيا وسوريا والأردن، ولعل العلاقات الإيرانية - التركية مثلت مفترقاً حاسماً بعد احتلال العراق عام 2003، إذ عكس هذا الاحتلال تبدل موازين القوى الإقليمية لمصلحة إيران، التي أصبحت تتحكم في حكومة بغداد وتقود أجزاء كبيرة من الشعب العراقي عبر السيطرة المذهبية الدينية وتكوين المليشيات الشيعية. ولم يكن كافياً أن تتلاقى المصالح بين «أنقرة وطهران» في ملفات مهمة مثل منع تمدد القومية الكردية والعلاقات التجارية وإمدادات الطاقة، بأن تمنع الصراع القائم اليوم.

فالصراع القائم اليوم يمكن ربطهُ مع سقوط الموصل (يونيو 2014) بيد «داعش»، حيث استخدمت إيران ملف «داعش» كورقة دولية مهمة لتحقيق مصالحها، وخاصةً بأن محاربة «داعش» ستكسب طهران بناء قوة مهيمنة إقليمياً مدعومة من واشنطن وموسكو لتبسط نفوذها على المنطقة، ولتملأ الفراغ الناجم عن احتمال تقليل أو انسحاب القوات الأميركية من المنطقة، وخاصة مع وجود علاقات ومصالح إيرانية مع إسرائيل. وتريد طهران السيطرة وربط الموصل وأجزاء من الشمال العراقي كجسر نحو سوريا «وهو تمدد شيعي كبير وخطير من إيران والعراق إلى سوريا». ولقد أدركت تركيا المساعي الإيرانية التوسعية وتحقيق مكانة إقليمية ودولية على حساب مصالح ودور تركيا التي تجاور العراق وإيران وسوريا، فهي «أنقرة» تمتلك علاقات براجماتية وأمنية مع حكومة أربيل، كما أن إصرار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على عدم الخروج من شمال العراق والدخول في ملف الموصل ومحافظة نينوى، يأتي من خلال حماية التركمان، والدفاع عن السُنة العرب في العراق الذي بدوره يعكس الصراع الحقيقي بين إيران وفلكها الشيعي وبين تركيا الداعمة للسُنة، كما أن التدخل في ملف الموصل ومحافظة نينوى وبشكل عام شمال العراق يمنع تمكين محور الشيعة التوسعي بقيادة إيران من ربط أجزاء من شمال العراق بسوريا في تحقيق تغير ديموغرافي وعسكري شيعي يخدم الطموح التوسعي الإيراني. إضافة إلى ذلك تريد أنقرة توجيه ضربة على وجه السياسة الأميركية التي أهملت مصالح وأهمية تركيا في شمال العراق وسوريا.

حقيقةً، تركيا تسعى لوقف التمدد الإيراني من العراق إلى سوريا، من خلال دعمها للعرب السُنة والأكراد والتركمان والمسيحيين في شمال العراق، والذي بدوره يجعل أنقرة تزاحم النفوذ والقوة الإيرانية والملالية في العراق، إلى جانب ذلك تهدف إلى تفكيك حزب العمال الكردستاني في الشمال العراقي وتخدمها في ذلك حكومة أربيل. وقد وصل الصراع التركي الإيراني من خلال الخلافات السياسية والدبلوماسية بسبب الوجود التركي في شمال العراق بين بغداد وأنقرة إلى تهديد الحشد الشعبي لتركيا، وتلويح إيران بمحاربة تركيا اقتصادياً في منع دخول السلع التركية إلى أسوق بغداد المتحكمة فيها، دون القدرة على منعها في الشمال وخاصة حكومة أربيل، كما أن هناك ترهيباً بتضييق الأسواق والاستثمارات الإيرانية أمام تركيا. ولكن استخدام الأوراق الاقتصادية قد يزيد من حدة الصراع إلى تحرك سعودي كفاعل قوي يستطيع أن يؤثر في أسواق السلع الإيرانية في بعض دول الخليج لما تحمله السعودية من مكانة لدى دول مجلس التعاون الخليجي، وخاصة بعد وصول الصواريخ الإيرانية «الحوثية» قرابة 65 كيلومتراً من مكة المكرمة في حرب «عاصفة الحزم». أجل ما نقصده هنا أن تركيا تقوم بدور كبير ومحوري ومصيري يخدم العرب كما يخدم المصالح التركية الخاصة في منع تمدد النفوذ والقوة الإيرانية في المنطقة. وإلى هنا، فإن العلاقات التركية الإيرانية علاقات تعاون وصراع تتضمن الردع في الأيديولوجية المذهبية، والتنافس حول الدور الأكثر فعالية وتأثيراً في قضايا الشرق الأوسط.