عمار علي حسن

عاشت الجماعات والتنظيمات السياسية التي توظف الإسلام لتحصيل السلطة والثروة في العالم العربي حيناً من الزمن تنتظر أن تنفتح أمامها النوافذ والأبواب على مصاريعها في سبيل أن تنفرد بسدة الحكم، أو بجزء منها. 

وظل أصحاب هذا اللون من التفكير والممارسة السياسية يعتقدون أنهم أحق بالقيادة من كل المنتمين إلى تيارات سياسية وفكرية أخرى ماج بها العالم العربي على مدار قرن كامل، تمكنت فيه من أن تسيطر على مقاليد الأمور، سواء بتولي الحكم أو بامتلاك نفوذ اجتماعي كاسح. ولكن هذه التيارات لم تلبث أن فترت همتها وضعفت شوكتها وران عليها الجمود، وأفلست في أن تقدم مشروعات نهضوية قادرة على أن تقود العرب إلى نجاح متصل، بعد أن وقع أغلبها في فخ الأيديولوجيات المنفصلة عن الواقع، أو صار معلقاً بإرادة حكام مستبدين، وجماعات ونخب فاسدة ومتسلطة، وحلقات ضيقة من جماهير منتفعة، وليست مقتنعة.

وظلت جماعة «الإخوان» وبقية التنظيمات الدينية السياسية تركز في حديثها على دورها «القيادي» المزعوم الذي حان وقته، بعد أن تراجع دور الليبراليين العرب. ففي أيام المستعمر كانت أغلب النخب العربية التي تقود الكفاح ضده تنتمي إلى الليبرالية في قيمها العامة، ولكنها فقدت موقعها الأمامي، بعد الاستقلال، ليبرز التيار القومي، الذي غلبت عليه الأيديولوجيات ذات الطابع اليساري. ومع عجز الليبراليين العرب عن استعادة مكانتهم المفقودة ومجدهم الضائع، بل إن فريقاً منهم يرميه كثيرون بالخيانة، طمع التيار الديني في الحكم، وراح يزاحم القوميين واليسار.

وزاد من طمع هذا التيار وحديثه عن أحقيته في تولي دفة الأمور أن التيار القومي قد فشل، هو الآخر، في أن يحافظ على المكتسبات المهمة التي حازها قبيل رحيل الاستعمار وبعيد التحرر منه، ولم تنجح الأيديولوجيات التي تبناها وفي مقدمتها «الناصرية» و«البعثية» في أن تنهض بالواقع العربي. فالأولى ترنحت بعد هزيمة 5 يونيو 1967 ثم قضي عليها بعد وفاة الرئيس جمال عبدالناصر. أما الثانية فتعرضت لهزة عنيفة بسقوط نظام صدام حسين على أيدي الأميركيين في التاسع من إبريل 2003، ثم انفجار الأوضاع في سوريا على هذا النحو المخزي والمحزن.

وقد ظل «الإسلاميون» يلهثون وراء ميلاد لحظة «التمكين» طيلة سبعة عقود من القرن العشرين من دون جدوى، مستندين إلى عدة أسس أو ذرائع هي: أولها «شرعية المقاومة»، بمعنى الاتكاء على أن عناصر إسلاموية، تنتمي إلى جماعات وتنظيمات عدة، هي التي ترفع لواء «المقاومة» ضد الغرب. وثانيها حيازة جماعات إسلامية تعتبر نفسها «معتدلة» ثقة جماهير أولتها لمرشحي التيار الإسلامي في انتخابات تشريعية ومحلية جرت في أكثر من بلد عربي مع مطلع القرن الحادي والعشرين. وثالثها تقديم «الإسلاميين» أنفسهم باعتبارهم «ضحايا»، أو جماعات «مضطهدة»، بما جلب لهم أحياناً تعاطفاً شعبياً.

ولكن هذه العناصر تتجاهل أموراً عدة، أو تقفز عليها بشكل متعمد، أولها أن حركة المقاومة في العالم العربي لا تعتمد على الإسلاميين فقط، بل بعض فصائلهم تحالفت مع المستعمر أو صمتت عليه، مثلما فعل «الإخوان» في العراق، بينما تتراكم الدلائل التي تشير إلى أن «داعش» نفسه صناعة مخابراتية غربية، وهو اتهام يطال النشأة الأولى لـ«الإخوان» أيضاً. 

وثانيها وجود ضحايا آخرين، يساريين وليبراليين، للأنظمة الحاكمة في العالم العربي، يدفعون ثمناً لنضالهم من أجل حياة سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية أفضل. وثالثها قصور نظرة بعض الإسلاميين إلى الديمقراطية، من حيث قيمها وثقافتها وإجراءاتها أو آلياتها. إذ يتعامل التيار الديني معها على أنها مجرد «صندوق انتخاب»، قبلوه على مضض، فإن رفعهم إلى الحكم سيستأثرون به، وينكّلون بكل من ينازعهم أو يطالب باستبدالهم، لأنه في هذه الحالة سيكون «رافضاً» للدين والشرع و«حاكمية الله»!

وقد رأينا، كيف تصرف «الإخوان» في مصر وتونس بعد أن استغلوا ما فعلته الطليعة المدنية والشعب في إسقاط حكم بن علي ومبارك، في القفز على السلطة، وكيف تبين للجميع وجود فصام تام بين خطابهم وتصرفاتهم وقت أن كانوا «مستضعفين»، وذلك الغرور والاستعلاء الذي تملكهم حين وصلوا للحكم. ليبرهنوا على أن «الإسلام السياسي» لم يكن أبداً مشروعاً بديلاً، لإخفاق نخب ما بعد الاستقلال في العالم العربي، بل كان كارثة جديدة.