محمد الرميحي

 من بين الأزمات الهيكلية الكبرى التي واجهت لبنان منذ الاستقلال، انتخاب رئيس جمهورية. لا يذكر أحد منذ الرئيس الأول بشارة الخوري، حتى الثالث عشر ميشال عون، لا ينتهي عهد رئيس إلا وتندلع أزمة تكبر أو تصغر، بعض الأوقات تسمى التجديد وبعضها يسمى التمديد والأطول في الزمن تسمى الشغور! يعتقد اللبنانيون أنهم الشعب العربي الأكثر تعليمًا والأكثر قربًا من الغرب، ولكنهم أيضًا يحملون صفات الشقاق السياسي على أفضل وجه يمكن أن يحمل.

الرئيس الثالث عشر مر من خلال الانتخاب الاثنين الماضي بأربع دورات، مما يعني من جديد أن الولادة كادت تتعسر. خطاب القسم للرئيس كان لافتًا وبدا إيجابيًا وبعيدًا عن الإرث التاريخي المشبع بالتشنج، ولفت نظري حديثه عن الخطوط العريضة لمشروعه الداخلي والعربي، وكان قد بنى مجده الاستقطابي السابق على المشروع الانعزالي! أردت أن أعرف مضمون إشارته في الخطاب للمادة الثامنة من ميثاق الجامعة العربية ولماذا المادة الثامنة؟ ووجدت أن منطوقها يقول: «تحترم كل دولة من الدول المشتركة في الجامعة نظام الحكم القائم في دول الجامعة الأخرى، وتعتبره حقًا من حقوق تلك الدولة، وتتعهد بأن لا تقوم بعمل يرمي إلى تغيير ذلك النظام».. الإشارة إلى هذه المادة بالتحديد لها معنى لدى الرئيس، عدم التدخل، فهل يعني تدخل حزب الله في سوريا تدخلاً في قاموس الرئيس؟ أم هو تدخل إيجابي أي تعضيد للحكم القائم؟ والنص ملتبس ويحمل معاني، فإن أريد الإطاحة بنظام عربي علينا أن نتدخل لبقائه؟ إشارة تستحق أن نتوقف عندها!
اليوم بعد التنصيب ما خيارات السيد ميشال عون المتاحة بعد أن تعطل أكثر من ربع قرن على أبواب القصر الجمهوري في بعبدا؟ وهل ينتقل من «رجل سياسة» إلى «رجل دولة»؟ هناك ثلاثة سيناريوهات ممكن أن يذهب فيها السيد عون مع لبنان في المستقبل، وهي سيناريوهات ليست سهلة؛ أولها أن الرجل يمكن أن يعمل جاهدًا على رص الصفوف اللبنانية وتطييب الخواطر لإنقاذ البلد من الخراب الذي وصل إليه، ذلك سوف يكون من شبه المستحيل، لأن إنقاذ البلد هو عودته طبيعيًا، والعودة الطبيعية تعني أن يكون هناك سلاح واحد للدولة الواحدة، وقرار واحد للسلم والحرب في تلك الدولة! فهل يستطيع عون أن يُقنع حزب الله بذلك؟ أم يبقى لبنان برأسين في السلاح! وأكثر من رأس في القرار السياسي! ثم هل يستطيع السيد عون أن يقدم إلى اللبنانيين الأمن، وجزء من اللبنانيين يحاربون آخرين في بلد مجاور هو سوريا، ويقتلون ما يشعر به بعض اللبنانيين أنهم جزء من أهلهم؟، لا يمكن تحقيق الأمن الذي هو شرط مسبق للاستقرار من جهة، والانتعاش الاقتصادي من جهة أخرى، إلا بتأكيد حياد لبنان وخروج الدولة اللبنانية من مأزق التفكك.
السيناريو الثاني أن يقرر السيد عون أن يساير حزب الله في توجهاته، عملاً برد بعض جميل إيصاله إلى الرئاسة، وبالتالي يربط لبنان أولاً بقضايا أكبر من قدرته على تحملها، ويلحقه بذيل المصالح الإيرانية، وقتها يفتح الباب واسعًا لشقاق لبناني/ لبناني قد يتصاعد حتى يصل لبنان إلى ما وصلت إليه سوريا واليمن وليبيا، وهو السيناريو الأسوأ للبنانيين جميعًا ولمؤيدي الجنرال عون على وجه الخصوص.. أما السيناريو الثالث الأكثر قربًا إلى المنطق أن يكتفي الجنرال بإدارة الصراع وهو في بعبدا، أي أن يكون «حقنة تهدئة» ويترك الأمور كما هي قائمة، مع تحسينات طفيفة، وبالتالي يفقد أهم ما قاله عن نفسه، وقاله مناصروه عنه، إن لبنان يحتاج إلى رئيس قوي.. في السيناريو الثالث لن يكون قويًا حتى بقوة أي ممن سبقوه!
ميشال عون لمن راهن عليه في «التكويع» وحسب تأرجحه السياسي، من رجل عسكري سابق له طموح غير محدود، فقد تحالف مع صدام حسين في نهاية الحرب الأهلية دون تحوط، وبذلك أثار السوري في دمشق إلى حد استخدام الطائرات ومن ثم تطرده قوة مهيمنة من القصر الجمهوري إلى السفارة الفرنسية في بيروت، ثم إلى فرنسا، وهناك تأخذه المقادير من سجين في المنزل إلى تأهيل متدرج حتى يذهب إلى الولايات المتحدة ليفضح (المحتل) لبلده، كما وصف سوريا في ذلك الوقت! وبعد العودة، عندما وجد أن لا متسع له للصعود إلى القمة مع الحلفاء الذين استقدموه، تحالف مع أعداء الأمس حتى يصل! هذا التذبذب في التحالفات السياسية، يراهن البعض على استمراره، إلا أن (المشروع) الذي حمله السيد عون تغيرت بوصلته من الوطن إلى «الأنا الوطن»، وهو أمر يعني فيما يعنيه الكثير من الشقاء للبنانيين بكل اجتهاداتهم السياسية.
هل قرار انتخاب الجنرال استباق لما يمكن أن يحدث في المنطقة، خصوصًا أننا على بعد زمني قليل من ظهور نتائج انتخابات في الولايات المتحدة التي قد تغير الإدارة القادمة من توجهات تلك الدولة الكبرى في منطقتنا؟ تلك أسئلة لا أعتقد أن أحدًا يستطيع أن يجيب عنها على ضوء المعطيات الحالية، إلا أن المؤكد أن حالة الانتخاب وسرعتها النسبية تؤكد (الحالة الاستباقية) إما على الصعيد الإقليمي أو على الصعيد المحلي اللبناني! واضح أن هناك يدًا خفية، لأن حسابات البيدر غير حسابات الحقل، فعون القوي في المعارضة سوف يكون محط تصويب سريع من الأصدقاء القدامى واختبار من الجدد، والنيران الصديقة تجاهه أكثر من العدوة! الرئيس العتيد له مواصفات في كل تجلياته، فهو عنيد، أي لا يحسن كثيرًا الذهاب إلى الحلول الوسطى، ومتقلب في ولاءاته، وناجح جزئيًا في كونه معارضًا، والمعارضة هي قريبة إلى الهدم، فلا تحسن البناء، مع ما يحمله من تفويض الأقرباء. إذا اعتقد أحد أن لبنان قد ودع أزماته بانتخاب الجنرال، عليه مراجعة ذلك الموقف. أرى أن أقصر «شهر عسل» لرئيس لبناني هو شهر العسل الذي سوف يمضيه الجنرال في بعبدا، فسرعان ما سوف يصطدم حتى بوعوده الأخيرة التي أطلقها، ونص خطاب القسم. هل هو رئيس «مؤقت» يرضي غروره للرئاسة ثم يؤتى برئيس جديد لمرحلة جديدة، هذا ما أشعر به وإن كنت لا أحلف عليه!!
آخر الكلام:
بودي أن لا يذهب الإعلام اللبناني كثيرًا في القول إن «الرئيس العتيد» صناعة لبنانية، فالصناعة السياسية اللبنانية فقدت الكثير من قدرتها على الإنتاج المحلي.