هالة مصطفى 

 يحتل الشباب مكانة محورية فى اهتمامات الدول, كبيرة كانت أو صغيرة, متقدمة أونامية, فهم فى النهاية مصدر حيوية أى دولة, بهم يكون التغيير والتجديد ممكنا, ومن دونهم قد يختل التوازن اللازم للاستقرار. ومن هنا تأتى أهمية المؤتمر الوطنى للشباب, الذى دعت اليه ورعته رئاسة الجمهورية, كخطوة أولى لحوار دائم معهم يضع قضاياهم - وهى كثيرة ومتنوعة - فى مقدمة أولوياتها, وليس هذا بالأمر السهل, فلكل جيل تحدياته التى يفرضها على الدولة والمجتمع معا, إذ لم تعد هناك وصفات جاهزة يمكن التعامل بها مع هذه الفئة تحديدا أو تكون صالحة لكل زمان ومكان.

و«الجيل» لا يُعرّف فقط بالمعنى العمرى, أى بالمسافة الزمنية التى تفصل بين فئة عمرية وأخرى, فيكون تصنيفا ساكنا موزعا بين كبار وشباب وصغار, ولكنه يكتسب معانى أكثر عمقا من النواحى السياسية والاجتماعية والثقافية تبعا للظروف والمتغيرات المحلية والعالمية التى تحكم حقبة ما, وبقدر سرعة إيقاعها تكون حدة الاختلاف فى الرؤى والأفكار بين الأجيال, أو ما يعرف بالفجوة بينها. ولا شك أن الشباب هم الأكثر تأثرا بكل ما يجرى فى محيطهم الذى يعيشون فيه ويتفاعلون معه وهم أيضا من يمتلك, فى المقابل, القدرة على فرض أشكال جديدة فى التعامل معه وتغيير الثوابت المعتادة, يسرى ذلك على كل الأنشطة الانسانية, أى فى السياسة والرواية والشعر والموسيقى والأزياء وأسلوب الحياة, حتى أنه يمكن تمييز جيل الستينيات عن السبعينيات ثم الثمانينيات وصولا للألفية الثانية من هذه الزوايا. فبانقضاء الحربين العالميتين وما صاحبهما من دمار واحباط وكساد قاد الشباب أبرز حركات التمرد فى التاريخ الأوروبى ظهرت آثارها جلية فى أواسط القرن الماضى وربما كان أشهرها مظاهرات الطلبة فى فرنسا فيما عرف بانتفاضة مايو 1968 أو ثورة الشباب على الزعامة التاريخية لشارل ديجول وامتدت لباقى أوروبا. وبنفس المنطق. وبالتزامن حدث التمرد على ألوان الموسيقى الكلاسيكية فاجتاحت موسيقى الروك والبلوز والكانترى والجاز العالم, متجاوزة موطنها الأصلى بأمريكا, وهى أنماط موسيقية محملة بالصخب والأداء الصوتى الحماسى الصارخ المستمد من التراث الشعبى من ناحية والمعتمد على الايقاعات الافريقية (خاصة الجاز الذى يعود بجذوره الى مرحلة الغاء نظام الرق والعبودية ونهاية الحرب الأهلية الأمريكية) من ناحية أخرى, كرمز للتحرر والمساواة بعيدا عن الطبقية أو التمييز, بل إن ارتداء «الجينز» الذى نُعده مجرد «موضة» فى الأزياء الآن ويباع بأغلى الأسعار, عند أول ظهوره كان تعبيرا عن الاحتجاج على مجتمع الاستهلاك والثروة والرفاهية التى لا يتمتع بها سوى الأقلية من الأغنياء «المتأنقين», وحتى ظاهرة «الهيبيز» التى انتشرت فى الستينيات والسبعينيات, والتى قد لا يعرف الكثيرون عنها سوى ما اختص بها أصحابها من اطالة لشعورهم ولبس الملابس الفضفاضة البسيطة والغناء فى المقاهى أو المغالاة فى بعض سلوكياتهم التحررية, كانت فى الأصل حركة شبابية ضد المظاهر المادية والرأسمالية القاسية فى ذلك الوقت.

اذن سواء تحدثنا عن ظواهر سياسية مباشرة أو اجتماعية تحمل مضامين سياسية غير مباشرة, ففى الأول والآخر كان الشباب هم قوتها المُحركة, انقضت أشياء وبقيت أخرى, لكن فى كل الأحوال حدث تغيير على مستوى السياسات العامة تدعيما لدولة الرفاه (الرعاية الاجتماعية) والطبقة الوسطى وحقوق الأقليات من مختلف الألوان والأجناس والطبقات والفئات الاجتماعية, من خلال المبادئ والقيم التى حملوها ودافعوا عنها وليس باعتلائهم السلطة, فتجديد الأفكار دائما ما يحدث مع تعاقب الأجيال وان بقى بالطبع لكل جيل أدواته وأسلوبه المميز فى التعبير عن نفسه.

العصر الذى نعيش فيه حاليا هو عصر الثورة التكنولوجية والاتصالات والمعلومات, هو بعبارة واحدة عصر «السوشيال ميديا»أى وسائل التواصل الاجتماعى من تويتر وفيس بوك وانستجرام, وهذه الوسائل وان عبرت عن طفرة تقنية تُسهل حياة الأفراد وتربطهم ببعضهم البعض, الا أن آثارها السياسة تبقى على نفس القدر من الأهمية ان لم تتفوق عليها. فقد وجد الجيل الحالى فيها فضاءً واسعا للانفتاح على العالم وللتعبير عن آرائه ووجهات نظره بعيدا عن أى رقابة أو سلطة سياسية, مثلما وفرت له القدرة على الحشد والتعبئة وتوجيه الرأى العام لمساندة فكرة أو قضية ما أو على العكس مناهضتها, بعيدا عن الأطر التقليدية خاصة الأحزاب السياسية التى كانت من قبل تلعب دور الوسيط بين الشباب والدولة, مثلما جسدته منظمة الشباب فى الستينيات المنبثقة عن الاتحاد الاشتراكى أى فى حقبة التنظيم السياسى الواحد, أو حتى فى ظل التعددية الحزبية فى تجربة ما قبل 1952 وقت تشكيل «الطليعة الوفدية» لحزب الوفد ممثل الأغلبية آنذاك. الآن يخاطب الشباب الدولة مباشرة متجاوزين النخب والأحزاب بمشاكلها وضعفها وأزماتها المزمنة وعجزها السياسى عن اجتذاب الأجيال الجديدة. وعلينا أن نعترف هنا بأن التجربة الحزبية العربية عموما لا يمكن مقارنتها بمثيلاتها الغربية فى رسوخها وحيويتها.

لا يعنى هذا أنه ليست هناك جوانب سلبية لتلك الوسائل الحديثة, فالتعامل المستمر مع عالم افتراضى يؤدى الى نوع من الفوضى الفكرية ولا يوفر رؤية شاملة للتغيير والاصلاح, بل وربما يحول مواطنا أو شابا عاديا أو محدود القدرات الى مناضل سياسى فجأة لمجرد ابدائه رأيه فى شأن من الشئون العامة, كذلك قد يكون فى بعض الأحيان أداة لبث أفكار منغلقة أو متطرفة مناقضة للحداثة ذاتها التى اخترعت «السوشيال ميديا» ورأينا أيضا كيف وظفته كثير من جماعات العنف لاستقطاب وتجنيد أنصار لها, فكل ذلك صحيح ويحتاج الى معالجة خاصة, ولكنه لن ينفى سطوة وسائل التواصل الاجتماعى على حياتنا السياسية اليوم وأنها ستظل كذلك لسنوات مقبلة.